بقلم: مصطفي الفقي
أطل الآن من شرفة العمر على ثمانين عامًا منذ مولدى، وأرى حياتى حافلة بالنجاحات والإخفاقات، بالانتصارات والانكسارات، بحشدٍ ضخم من الفرص الضائعة والتصرفات الخاطئة والضعف البشرى الذى جر علىَّ متاعب كثيرة فى رحلة العمر، وأتذكر عندما كنّا صغارًا أننا كنّا نقول عن شخصٍ ما إنه رجل كبير تجاوز عمره الأربعين عامًا، فإذا الكون قد دار دورته والكوكب سعى سعيه فى تجديد الحياة وتغيير الإطار الذى نحيا فيه.
وها هو عيد ميلادى الثمانين يأتى على صوت قصف الطائرات وفحيح الراجمات وطلقات الرصاص على الأجساد العارية والبطون الخاوية، إنه صراع الإنسان ضد أخيه مهما كانت الأسباب ومهما تعددت الدوافع، أتذكر اليوم أيضًا عندما جرى تعيينى دبلوماسيًا صغيرًا بالسفارة المصرية بلندن وشكوت ذات مساء لصديق عمرى الراحل شوقى أبوعلى الذى كان يتنقل بين لندن ونيويورك أسبوعيًا.
وقلت له إن ترتيبى على القائمة الدبلوماسية للبعثة المصرية متأخر بحكم درجتى الصغيرة ولا يتاح لى عقد لقاءاتٍ أو طلب مقابلاتٍ مع الدبلوماسيين البريطانيين أو الأجانب، لأنهم يفضلون الدرجة الأكبر باعتبارها مصدرًا متوقعًا للمعلومات والتحليلات والآراء، وكان صديقى شوقى شخصية أسطورية بحكم اتصالاته الدولية الواسعة وصداقاته الوثيقة مع عدد كبير من الشخصيات العالمية.
ورغم أننا خريجان من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلا أنه كان قد شق طريقه خارج مصر وحقق نجاحاتٍ واسعة فى المجالات الثقافية والفنية، وتكون لديه رصيد كبير من المعارف فى شتى المجالات، قال لى يومها: لا تثريب عليك، سوف أفتح لك نافذة فى الخارجية البريطانية، وتوهمت أنه سوف يعرفنى بأحد الدبلوماسيين الصغار فى وزارة الخارجية بلندن، فدعانى على العشاء مع شخصية وقورة لا أعرفها تبدو فى نهاية الخمسينيات من العمر، وقدمنى يومها باعتبارى طالب دكتوراه فى الجامعة وليس بدرجتى الدبلوماسية المتواضعة.
واكتشفت أن الذى يجلس معنا هو السير آنتونى بارسونز الذى كان سفيرًا لبريطانيا فى إيران ومندوبًا دائمًا لها فى الأمم المتحدة وهو دبلوماسى مرموق وشخصية كبيرة، كان السيد كمال رفعت سفير مصر فى لندن حينذاك يسعى للقائه فى مناسباتٍ مختلفة، وامتد الحديث بيننا نحن الثلاثة على العشاء فى أحد مطاعم حى ماى فير وسط العاصمة البريطانية، وخرجت من اللقاء لأكتب محضر المقابلة كما جرت الأعراف الدبلوماسية بذلك لرفعه للسفير المصرى فى لندن، وكان الدبلوماسى البريطانى الكبير يحدثنا بمنطق الصداقة التى لا علاقة لها بالعمل الرسمى.
وقد ذكر فى ذلك المساء أن إسرائيل كانت قد طلبت من بريطانيا بيع صفقة دبابات، وكنّا فى فترة حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية/ الإسرائيلية حينذاك، وحينما اطلع السفير كمال رفعت ونائبه اللامع محمود سمير أحمد على محضر المقابلة تصورا أن الدبلوماسى الصغير فى البعثة قد شطح بخياله وتوهم لقاءً لم يحدث، وعندما علمت بذلك ذهبت إلى نائب السفير د.سمير أحمد مؤكدًا له صحة اللقاء مع إصرارى على الاحتكام إلى المسؤولين عن العلاقات مع بريطانيا فى الخارجية المصرية، وتمَّ لى ذلك، وأشاد الدبلوماسيون الكبار فى ذلك الوقت بتلك المقابلة وصدق ما جاء فيها.
أقول ذلك وأكتبه الآن لكى أدلل على أن الدبلوماسية البريطانية كانت ولاتزال مخزنًا لمعلومات هامة عن الشرق الأوسط؛ لأنها تقف وراء كافة مشاكله منذ طرحت عبارة إن مصر يجب ألا تغرق ولا أن تطفو، فغرقها سقوط للمنطقة، كما أن تحليقها يسمح لها بالخروج عن حدودها لتوسعاتٍ إقليمية كما حدث فى عهدى محمد على وجمال عبدالناصر، إنهم أيضًا الإنجليز الذين قالوا إذا عطست مصر فإن ذلك معناه أن الشرق الأوسط مصابٌ بالإنفلونزا.. إن ثمانين عامًا تطل على ذاكرتى التى شحبت من كثرة الطرقات للأخبار سارة وحزينة.
وبالأفكار عميقة وسطحية، وبالرؤى بعيدة وقريبة، إن الزحف نحو الثمانين هو مناسبة للتركيز على تفصيل التجربة وشرح الغوامض وتربية الأجيال الجديدة الواثبة نحو سنوات الشباب!