وصلت مشكلة سد النهضة الإثيوبي إلى درجة من التعقيد الواضح خلال الأعوام الأخيرة، بما أدى إلى حالة من التأزم والتوتر مع جريان مياه النهر.
وقد حاولت مصر والسودان التصرف بصبر وهدوء في إطار الشرعية الدولية سالكين الطرق الدبلوماسية والقانونية لتطويق أبعاد هذه القضية في إطار تسوية تحافظ على حقوق كل الأطراف، وتتماشى مع مبادئ القانون الدولي المتصل بحركة الأنهار العابرة للحدود، ويهمني هنا أن أسجل بشفافية وحياد الاعتبارات التالية:
أولاً، إن العلاقات الإثيوبية - المصرية كانت دائماً محاطة بدرجة من الغموض ولم تبرأ من بعض مظاهر الثقة المفقودة، فأديس أبابا ترى أنها دولة كبيرة من حيث عدد السكان، وأنها تسيطر على منابع النهر في معظمها، كما أنها تعيش تاريخياً في ظل أصداء عرش سليمان ومملكة داوود، وهي من أكبر دول القارة عدداً في السكان وأسبقها إلى التحرر من الاستعمار الأجنبي.
ولقد وعت مصر هذه الحقيقة مبكراً، ففي العصر الملكي حرصت أسرة محمد علي على أن تكون لمصر يد طولى تمتد إلى منابع النيل، كما استخدمت مصر بعض أدواتها الناعمة، وفي مقدمها التقارب الديني بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، فضلاً عن دور مصر في علاقة دينية مع مسلمي الحبشة، إلى جانب الهجرات الوافدة مع مياه النيل من الجنوب إلى الشمال.
ويكفي أن نتذكر أن المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي ينتمي إلى عائلة من إقليم جبرت في إمبراطورية الحبشة، التي انتهت على يد مانغستو ورفاقه مع سقوط حكم الإمبراطور هيلاسلاسي في بداية الربع الأخير من القرن العشرين.
وبعدها تفككت الأواصر القوية التي كانت تربط بين طرفي الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة وظهرت بوادر التغير على نحو ظاهر، لأن مصر كانت تروض الحكم الإمبراطوري وتتقارب مع هيلاسلاسي على أرض أفريقية مشتركة.
وبادر عبد الناصر بالمشاركة في اختيار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مقراً لمنظمة الوحدة الأفريقية منذ عام 1963 وحرص الرئيس المصري على إعطاء الإمبراطور الإثيوبي معاملة خاصة واختاره ضيف شرف عند وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الجديدة في القاهرة عام 1965 بحضور الحبر الجليل الأنبا كيرلس السادس بابا الأقباط في ذلك الوقت.
ثانياً، يجب أن نعترف بشجاعة أن مصر قد أضاعت فرصاً للحصول على اتفاق مكتوب يعد وثيقة تعتمد عليها أمام القضاء الدولي لإثبات حقها في مياه نهر النيل، وفي ظني أن مصر لم تتصرف بحكمة وكياسة عند توقيع اتفاق "عنتيبي"، وجرى اتخاذ الأمر بشيء من الاستخفاف الذي أوصلنا بشكل أو بآخر إلى ما نحن عليه.
إضافة إلى غياب الوعي القومي بالإطار المحتمل لقضية مياه النهر عندما وقع الأطراف الثلاثة على الاتفاق الإطاري 2015 في محاولة لتدارك النتائج المحتملة للمشكلة التي بدت بوادرها خصوصاً بعد زيارة الوفد الشعبي المصري للعاصمة الإثيوبية في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011، الذي تصرف بعض أعضائه بأسلوب اعتذاري أدى إلى تضخم الذات الإثيوبية بشكل ملحوظ، خصوصاً عندما وصل آبيي أحمد إلى موقع قيادة الدولة في أديس أبابا، الذي أظهر من المراوغة والتشدد ما أصبح واضحاً أمام الجميع، على رغم كل الفرص التي منحتها مصر للوصول إلى تسوية عادلة تحفظ حقوق الدولة المصرية في مياه النهر، الذي يتدفق على أرضها منذ آلاف السنين.
بل وتقدم بعض المسؤولين المصريين بأفكار بناءة كان منها ما اقترحه عصام شرف رئيس الوزراء المصري السابق على ملس زيناوي أثناء زيارته إلى القاهرة عام 2011 قبيل وفاته بأن يكون هناك تفكير إيجابي مشترك يدعو الدولتين أديس أبابا والقاهرة إلى الوصول لدرجة عالية من التعاون بينهما على نحو يسمح بتحقيق فائدة متبادلة من دون أن يكون هناك رابح وخاسر، بل يظل الاثنان رابحين.
ومن بين تلك الاقتراحات التي تقدم بها شرف، تعبيد طريق بري يصل بين أراضي إثيوبيا وأحد موانئ مصر على البحر الأبيض ولتكن بورسعيد أو دمياط أو الإسكندرية، بخاصة أن إثيوبيا لا تمتلك شاطئاً بحرياً منذ انفصال إريتريا، حيث تحولت الدولة الإثيوبية إلى دولة مغلقة لا تطل على البحار.
ثالثاً، لم يتخذ بعض الأشقاء العرب ما كان متوقعاً تجاه الأزمة الإثيوبية المصرية، بل دعم بعضهم حكم آبيي أحمد في إطار العلاقات الثنائية، واستثني من ذلك النشاط الإيجابي للدبلوماسية السعودية للمحافظة على الحقوق المشروعة في حصة مصر من مياه النيل.
لقد كتبت شخصياً مقالاً افتتاحياً في إحدى الصحف المصرية بعنوان "العرب وسد النهضة" وكان ذلك عام 2020، ولكن ردود الفعل العربية، على رغم صدق النوايا، كانت هادئة وتكتفي بالدعم اللفظي على رغم وجود الاستثمارات العربية الهائلة التي تملكها بعض الدول العربية لدى الدولة الإثيوبية، خصوصاً وأننا لم نكن نريد الضغط على أديس أبابا، لكن فقط استخدام المصالح المشتركة بينها وبين بعض الدول العربية الشقيقة لكي تعدل إثيوبيا عن أسلوب التشدد ولتقبل بحل عادل يرضي كل الأطراف.
وعندما ذهبت مصر إلى مجلس الأمن لم تكن النتائج كما نريدها، إذ إن الدول الخمس الكبرى هي دول منابع للأنهار شأنها شأن إثيوبيا وكان من الطبيعي ألا تجاهر تلك الدول بموقف يختلف عن ذلك باستثناء ما جرى في ظل الإدارة الأميركية السابقة للرئيس دونالد ترمب، الذي سعى إلى معالجة القضية بين الدولتين الأفريقيتين متعاطفاً بدرجة ما مع الموقف المصري.
إن الوضع الحالي بين القاهرة وأديس أبابا يوصي بشيء واحد، وهو ضرورة خلق شبكة من المنافع المشتركة بين الدولتين في إطار النهر الخالد الذي عاشت به الدولتان على مر العصور، بحيث يشعر كل طرف أنه قد حقق الحد الأدنى الذي يرضيه من هذا الاتفاق، وليس الطريق طويلاً ولا قصيراً، لكنه يحتاج إلى جهد وطني مصري سوداني إثيوبي خالص تحقق به تلك الدول مصالحها من دون أن تصادر حقوق الأجيال القادمة من شعوبها.
إن أزمة النهر الخالد الذي كان يجري بسلام عبر آلاف السنين أصبحت واحدة من أكبر الأزمات المرتبطة بمياه النيل على نحو يهدد استقرار وأمن المنطقة ويدق مسماراً خبيثاً في البناء القومي الأفريقي، بخاصة أن الأشقاء في القارة السمراء قد حاولوا الوصول إلى تسوية عادلة من طريق وساطة الاتحاد الأفريقي، لكن لم يتمكن الجميع من حلحلة الموقف حتى الآن.
لقد ذهب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة الإثيوبية مؤكداً أمام برلمان الدولة هناك على رغبة مصر في التعاون الكامل مع دول حوض النهر وفي مقدمتها إثيوبيا بغية الوصول إلى حل يحقق تطلعات شعوب النهر ويكفل حالة من الرضا التي يسعى إليها الجميع وتتطلع الشعوب لبلوغها.
وليس من شك في أن أزمة السد الإثيوبي هي جزء من إشكالية كبرى ترتبط بمياه الأنهار في عالمنا المعاصر ويستأثر الشرق الأوسط والقارة الأفريقية بجزء كبير منها، فمياه دجلة والفرات في غرب آسيا تواجه خلافات واضحة بين تركيا وجيرانها خصوصاً بلاد الرافدين التي ارتبطت بهما عبر التاريخ.
وتعاني سوريا أيضاً ولبنان والأردن من شح المياه حتى وصل الأمر إلى وادي النيل، حيث مصر التي كانت تزهو دائماً بأنها هبة النهر بدأت تدخل هي الأخرى في مرحلة الشح المائي واضعين في الاعتبار أن المياه هي الحياة وأن الحرص عليها يفوق الحرص على الأرض ذاتها، ونحن نتطلع جميعاً إلى وقت تصبح فيه الأنهار رابطة قوية وعروة وثقى لعلاقات عميقة بين شعوب تشرب من نهر واحد، كما كان الأمر عبر التاريخ الطويل في كل مناطق العالم التي تشقها أنهار تاريخية من المنبع إلى المصب.