بقلم -مصطفي الفقي
ما أبشع جرائم الإنسان الأبيض فى حق أبناء القارة الإفريقية، عبر القرون الماضية ولاتزال منافذ تسليم الرقيق لسفن الشحن شاهدة فى السواحل الغربية للقارة الإفريقية، سواء كانت تلك المنافذ فى ليبيريا أو السنغال أو غانا أو غيرها، إن تجارة العبيد وتصدير الرقيق إلى العالم الجديد تمثل مأساة كبرى ووصمة عار فى جبين الإنسان الذى يدّعى التحضر ويتشدق بالمدنية، ولم يقتصر الأمر على الأفارقة وحدهم بل إن حملات الإبادة الأمريكية للسكان الأصليين للبلاد كانت مأساة كاملة الأبعاد عندما شنوا كل أنواع الحروب على الأبرياء العزل الذين يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين، فإذا الغازى القادم عبر المحيط يستخدم ضد أصحاب الأرض كل أنواع الإبادة بما فى ذلك حرب الجراثيم والأوبئة وإعطاء أولئك المساكين (بطاطين) لمواجهة البرد، بينما هى مخازن حقيقية لشحنات معدية من أمراض خطيرة، ولم تمض سنوات قليلة وقتها إلا وقد أصبح سكان أمريكا الأصليون نماذج بشرية متحفية لا وجود لها فى الحقيقة إلا ما ندر، نعود إلى أشقائنا الأفارقة لنعرف حجم العذابات التى شعروا بها والاضطهاد الذى عانوا منه والتعاسة التى لازمتهم منذ لحظة الأسر فى جرائم مبكرة لما نسميه الآن الاتجار بالبشر، وربطهم بسلاسل حديدية عبر معابر ضيقة على الساحل لتتجه بهم السفن الغاصبة نحو العالم الجديد، وما أكثر الآلاف الذين مرضوا أو قضوا نحبهم فى أثناء تلك الرحلات وجرى إلقاؤهم فى المحيط وبعضهم كان لا يزال على قيد الحياة لكى تنهش الأسماك أبدانهم ويعبر الرجل الأبيض بتلك الجرائم المشينة عن حضارته المدعاة وأخلاقياته الراقية!
لقد عانى أشقاؤنا كثيرًا فى القارة الإفريقية أثناء عصور جلب العبيد واستخدامهم فى أشق الأعمال بعد أن يسلمهم تجار النخاسة إلى الأسياد الجدد ليصبحوا وقودًا للتنمية بلا أجر وبناة للنهضة دون مقابل، فهلكت منهم أعداد كبيرة ولم يفكر أحد فى أن يقدم لهم الحد الأدنى من ضمانات الحياة، وأتذكر الآن قصة قصيرة حدثت لى بالعاصمة البريطانية لندن فى أواسط سبعينيات القرن الماضى حيث كنت أعمل بالسفارة المصرية هناك وأسكن فى عمارة متميزة تسمى (لوردز كورت) فسمعت صوت ارتطام شديد فى الشارع وكان الجو عاصفًا والأمطار شديدة قبيل منتصف الليل وقلت لزوجتى يومها أظن أن سيارتى التى أتركها أمام المعبد اليهودى المجاور قد اصطدمت بها إحدى السيارات العابرة ولكنى لن أستطلع الأمر الآن (فالصباح رباح) كما يقولون، ولأننى كنت أسكن فوق معرض سيارات الفولكس فاجن فقد استسهلت الأمر فى اليوم التالى ودفع لى صاحب السيارة الأخرى مقابل التلفيات التى جرت لسيارتى، واتضح فيما بعد أنه كان صدامًا متعمدًا من جانبه للتعرف بى فى خدمة أهدافه الاستطلاعية وسط الدبلوماسيين الشباب الوافدين من دول الشرق الأوسط، المهم أننى كنت أجلس ذات يوم فى صالون شركة السيارات المذكورة أسفل مسكنى مباشرة فى انتظار دورى لتسليم سيارتى للإصلاح الدورى فإذا بى أرى أمامى الرئيس النيجيرى السابق يعقوب جوون الذى كان قد أطيح به منذ عدة شهور فقط وجاء إلى بريطانيا للدراسة وليبدأ حياته من جديد بعد أن كان رجل نيجيريا القوى، وتطلعت إليه قائلًا: سيدى إنك تشبه الرئيس جوون رئيس نيجيريا تمامًا، فرد قائلًا: أنا الجنرال جوون، ودار بيننا حديث نقطع به ملل الانتظار حتى يأتى دورنا، فقال لى إنه يدرس فى إحدى الجامعات البريطانية ويسكن فى المدينة الجامعية ويعيش الحياة العادية للطلاب، فذلك أمر كان يفتقده فى غمار السلطة التى قذفت به إلى قمتها لعدة سنوات، فقلت له: يا سيدى الرئيس هل تسمح لى بدعوتك إلى فنجان شاى فى منزلى بنفس البناية بالدور الثانى، فقال لى: لا بأس، فصعدنا وجلسنا ساعة أو بعض ساعة يحكى لى فيها عن ذكرياته ويحدثنى عن مشاهداته، ولفت نظرى ثقافته العالية وإرادته القوية، وقد قال لى: إننى من قبيلة مسلمة ولكن حملات التبشير تمكنت من تنصيرى فى سن مبكرة ومازال اسم شقيقتى حتى الآن هو فاطمة، ويومها سرحت بخيالى فى محنة الإنسان الإفريقى بين بارونات النخاسة ودعاة التبشير وجلادى العصور، وعندما التقيت البطل الإفريقى العظيم نيلسون مانديلا فى عاصمة ناميبيا عشية استقلالها كنت أتفحص ملامح وجهه وعليه بصمات سبعة وعشرين عامًا فى السجن بسبب نضاله ضد العنصرية والاستعمار لذلك آمنت دائمًا بأن التمييز العنصرى داء لعين أتمنى أن تبرأ الإنسانية منه دائمًا.
إن القارة السمراء قد دفعت ثمنًا فادحًا فى نضالها ضد الأجنبى الوافد أو الأبيض المغتصب الذى نزح ثرواتها وأفنى الآلاف من أبنائها وجعلها لعقود طويلة فريسة للفقر والجهل والمرض يجلب منها كل ثمين ونفيس ويترك فيها كل مؤلم ومشين، وها هى مصر تستعيد روح عبدالناصر فى إفريقيا ويمضى الرئيس السيسى فى كل مناسبة للتذكير بآلامها ومعاناة شعوبها والرغبة فى دفعها إلى الموقع الإنسانى الذى تستحقه والمكانة الدولية التى تسعى إليها.