لكل عصر رموزه، ولكل زمان أدواته، ولكل حقبة تاريخية قيادات وزعامات وشخصيات يسطع نورها ويتألق ضوؤها لتأخذ مكاناً على مقاعد التاريخ كان لا يمكن أن يتاح لها في فترة سابقة أو لاحقة.
أعتقد أن كل شيء معد لوظيفة معينة ودور بالتحديد، وأن جزءاً كبيراً مما نواجهه على الساحة العامة هو رصيد متراكم لا يمكن الهرب منه، لذلك فإن الحوار حول حدث تاريخي أو زمن مضى يحتاج بالضرورة إلى أن يضع القائمون على تحليل ما جرى أنفسهم في الفترة الزمنية التي جرى فيها الحدث والإطار العام لمجريات الأمور فضلاً عن البيئة الحاضنة للوقائع والمناخ السائد في عصرها.
لقد تابعت حواراً مكتوباً بين بعض الأساتذة الكبار في التاريخ المصري الحديث يدافع بعضهم عن المغزى الذي يقف وراء القرارات الخطرة التي قد تبدو لنا الآن مستهجنة بينما كان أثرها في وقتها أمراً يختلف، وهنا يكون المطلوب بوضوح أن نضع أنفسنا في عصر الحدث وتوقيته والظروف المحيطة به والأهداف التي كانت مرجوة منه، إذ إن التجريد ومحاولة تعرية الحدث مما أحاط به تعد خطيئة كبرى لا ضد الأحداث الجارية وحدها، ولكن ضد فلسفة التاريخ ذاتها.
المقارنة بين الحملة الفرنسية على مصر والحملة المصرية على اليمن، على سبيل المثال، تؤكد سلامة التحليل الذي نسوقه، وهي أن الموضوعية والحياد والابتعاد عن الشخصنة في الآراء الذاتية هي أمور واجبة عند التصدي لتقويم حدث معين في زمان بعينه، من هنا جاءت المقارنة دائماً بين الأحداث في العصور المختلفة ظالمة وغير منطقية، لأنها تفترض ثبات العوامل الأخرى، وهو أمر غير مقبول ولا معقول.
رفض العرب، على سبيل المثال أيضاً، قرار التقسيم عام 1947 لا يعني أبداً أن ذلك كان قراراً خطأً، لكن الذي نؤكده هنا أنه كان تجسيداً للإرادة العربية وقتها ولم يكن في ذهن المتابع للأحداث أن ما نرفضه اليوم نسعى إليه غداً وأن ما رفضناه بالأمس ندمنا عليه بعد ذلك.
إن عامل الوقت أساس عند المقارنة بين الأحداث بحيث نضع نصب أعيننا مفهوم الفرص الضائعة وأن ندرك أن صاحب القرار في وقت معين لم يكن على بينة من كل ما عرفناه بعد ذلك، لذلك فإنه عند إعادة النظر في الأحداث السياسية والقرارات المصيرية يجب أن ندرك أن عبارة (لو كان) لا تصلح لتفسير تلك الأحداث أو الوقائع، لأن صاحب القرار لم يكن على بينة من كل الأخطار والمحاذير التي تلحق بالحدث بعد ذلك.
لنطرح الوضع الحالي في الشرق الأوسط كنموذج تطبيقي لهذا النمط من الدراسات التحليلية للماضي القريب والبدائل التي كانت متاحة أمام صاحب القرار ليصنع مواقف مختلفة تؤدي إلى نتائج غير التي حدثت، إذ إن هناك بعض المحللين العرب والأجانب يرون أن وقائع يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 ربما لم يكن لها أن تحدث لو أن الثوار الفلسطينيين كانوا على بينة من ردود الفعل الإسرائيلية والنتائج الناجمة عنها والآثار المترتبة عليها، وأنه كان بوسعهم أن يتحاشوا النتائج البشعة التي ترتبت على رد الفعل الإسرائيلي الإجرامي بكل المعايير.
ويتساءل البعض ألم يكن الأجدى أن تكون هناك حسابات مدروسة للمكسب والخسارة من مثل هكذا قرار دفع الشهداء والنساء والأطفال والقتلى والجرحى فاتورة غالية من حياتهم وأرواح أبنائهم؟
ويرد على الفور قائل آخر إن العبرة ليست بالمدى القصير لكن بالنتائج الكبرى على المدى الطويل، فالشعوب تنال حريتها وتحصل على حقوقها بما تقدمه من دماء وأشلاء وتضحيات جسام ويجب ألا يكون هنا حساب المكسب والخسارة على المدى القصير وقد تخرج إسرائيل من هذه المعارك رابحة من حيث التكتيك قصير المدى ولكنها بالتأكيد خاسرة خسارة استراتيجية كبيرة على المدى الطويل، فقد تمكن الفلسطينيون، ربما لأول مرة في تاريخهم، أن يضعوا بصمة أبدية على جيش الدفاع الإسرائيلي وقدراته الخارقة كما يدعون واستخباراته التي لا تضيع منها دبة النملة كما يزعمون.
سنكتشف دائماً أن لكل قضية بعدين أحدهما إيجابي والآخر سلبي ولا يكون التقويم العادل إلا بالمقارنة بين النتائج النهائية وليست العوائد المرحلية، إن ذلك يذكرنا بقرارات الحرب وقرارات السلام بين العرب وإسرائيل ونتساءل كيف كانت "أوسلو" انتصاراً للفلسطينيين من وجهة نظرهم، لكنها كانت قيداً عليهم من وجهة نظر الإسرائيليين على الجانب الآخر، لذلك فإنه من الصعب أن نجزم بشكل قاطع بالنتائج المترتبة على كل حدث بذاته، بل لا بد من أخذه في سياق الرؤية الشاملة للقضية المتكاملة وليس فقط في حدود ما تم أو يتم.
في موضوع سد النهضة، الذي أقامته الحكومة الإثيوبية بشكل كيدي وقرارات من جانب واحد وتصرفات أحادية استفزازية، قد يدفع البعض للتساؤل لماذا لم تبادر مصر باستخدام قوتها الخشنة والقيام بعمل عسكري بغض النظر عن نوعيته وكلفته البشرية والمادية لحماية مياه النهر مصدر الحياة وشريان الوجود للشعب المصري؟
وقد يسترسل البعض في ذلك التحليل حالماً وغير مدرك لنتائجه حتى يصل بنا إلى القول إن تلك كانت فرصة ضائعة على مصر، بينما التمعن قليلاً في هذا الشأن يكشف بوضوح عن أن صبر القيادة المصرية كان مصدره الحكمة والقدرة على ضبط النفس وإبعاد المنطقة عن مواجهات دامية قد لا تنتهي بينما الضغط الدولي والنشاط الدبلوماسي قد يؤثران ولو على المدى الطويل في مسار الأحداث بحيث يفيق الجانب الإثيوبي ذات يوم ليجد أن قراراته كانت خطأ وأنه تسرع في إجراءاته ولم يضع في حسبانه حقوق الآخرين، وهي بالمناسبة حقوق لا تسقط بالتقادم، ولا تضيع بمضي الزمن، ولا يعني ذلك أن القاهرة قد تقاعست عن حقوقها أو فرطت في مياه النهر، ولكنها آمنت بالقاعدة الذهبية أن لكل حادثة حديث ولكل زمان رموزه ولكل أوان وقائعه.
وأود أن أطرح في هذا المقام نظرة شاملة تؤكد أن كل شيء ميسر لما خلق له ومرتبط بالظروف المحيطة لما جرى وما يجري، وأنا شخصياً أتذكر الآن مسرح عمليات المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية مع نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن حيث كان إيهود باراك رئيساً للوزراء في إسرائيل وعرضت حكومته في كامب ديفيد الثانية مشروعاً للسلام مع الفلسطينيين وقد رفضه الزعيم الراحل عرفات، لأن مراحله لم تكن واضحة وخرائطه لم تكن جاهزة، وكان لا يخلو من الغموض الذي أتقنته إسرائيل نقلاً عن المدرسة الدبلوماسية البريطانية التي تشعر كل طرف أنه قد أخذ شيئاً بينما تكون المحصلة سلبية على الطرفين.
لقد تساءل كثيرون لماذا لم يقبل عرفات في ذلك الوقت ما جرى عرضه عليه حتى وفقاً لمنطق خذ وطالب؟ ويلومه البعض على ذلك، بينما يرى الآخرون أن تلك لم تكن فرصة ضائعة ولكنها واحدة من الألاعيب الإسرائيلية لإيهام العالم بأنها تسعى إلى السلام بينما هي تدمره صباح مساء.
ويتساءل البعض أيضاً عن جدوى الربط بين القرار والتوقيت إذا كان كلاهما قد مضى إلى حال سبيله؟ وهنا تكون العبارة الواضحة وهي أن ذلك يعطي من العظات والعبر ما يسمح بتدارك الأخطاء وتحاشي الوقوع فيها مرة أخرى.
بقي أن أقول هنا إن الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو ما لاحظته من أننا نحن العرب نلوك دائماً الفرص التي ضاعت والمواقف التي أهدرت والآراء التي احتجبت ثم نكتشف بعد فوات الأوان أننا لم نكن على قدر المسؤولية ولم نع جيداً ما يجب أن نفعله وفقاً لكل ظرف متمشياً مع التيار الطبيعي لحركة التاريخ، كذلك فإنه يجب ألا نكون في عجلة من أمرنا وأن نتوقف عن البكاء على اللبن المسكوب.