بقلم - مصطفي الفقي
كان الرئيس الراحل مبارك يصفنى فى غيابى- وأمامى أيضًا- بأننى فى علاقتى بنظامه السياسى كراكب (مراجيح الهواء) يوم هنا ويوم هناك، وأظن أن ذلك توصيف دقيق لما كنت أمر به من مشاعر وما أعانيه من أزمات، ذلك لأننى أستطيع أن أتمشى مع رأى أختلف معه وصولاً إلى حدود معينة، ولكن ليس لدى القدرة على الحماس لاتجاه فكرى أو موقف سياسى يمضى بعيدًا عن قناعاتى الشخصية.
وقد أخفى ذلك ولكنه قد يظهر وراء سطور كلمات أقولها أو عبارات أكتبها، فأنا مع النظام القائم والشرعية الحاكمة ما دام الأمر يتسق مع الحد الأدنى مما أعتقده صوابًا، وأراه فى أعماقى التزامًا محتفظًا فيه بهامش كبير من التعامل الطيع مع الشرعية الحاكمة؛ وصولًا إلى وضع مرحلى يسمح بالتعايش مع الحد الأدنى من الاتفاق بين ما ألتزم به وما أشعر نحوه حقيقة. ولقد أدرك نظام الرئيس الراحل مبارك ذلك النوع من المعاناة التى أشعر بها، والصدام الذاتى الذى أعانيه.
فما أكثر الملاحظات التى تلقيتها من مكتب الرئيس انتقادًا لعبارات معينة أو رفضًا لأفكار بذاتها، فعندما ألمحت للتوريث فى مقال جعلت عنوانه (قيادة الأوطان غير إدارة الشركات)، وعندما قلت أيضا إن (الدور الإقليمى لمصر) يتراجع نتيجة ضعف سياستنا حينذاك فى المحيط العربى والشرق أوسطى، وجاء ذلك عنوانًا لصحيفة (البديل)، يومها اتصل بى صديقى السفير نبيل فهمى الذى أصبح وزيرًا للخارجية فى نظام ما بعد مبارك قائلا لى: إن هذا العنوان سوف يكلفك انتقادًا حادًا من سلطة الحكم، وعليك أن تتهيأ لذلك.
وعندما كتبت عن هيكل مقالًا إيجابيًا للغاية إعجابًا به وتقديرًا لموهبته، وهو أمر كررته أيضًا عن الفريق سعد الدين الشاذلى الذى عملت معه عندما كان سفيرًا لمصر فى لندن، وبعد أن نشرت مقالاتى فى الأهرام حول هاتين الشخصيتين صدر قرار فوقى بمنعى من الكتابة لمدة وصلت إلى عام كامل. وعندما رفضت زيارة إسرائيل عام ٢٠٠٤ تكرر الأمر مرة أخرى، وتوقف مقالى بعد رفضى عام 2004 زيارتها لتمثيل مصر فى العيد الفضى لمعاهدة السلام بيننا وبين الدولة العبرية.
وفى الحالة الأولى توسط رئيس التحرير الراحل الأستاذ إبراهيم نافع لعودتى للكتابة، وفى المرة الثانية تدخل رئيس التحرير أيضًا وكان هو الأستاذ أسامة سرايا لإعادة نشر مقالاتى فى الأهرام. وعندما قلت العبارة الشهيرة إن (الشعب المصرى سنىّ المذهب شيعىّ الهوى)، لم يصادف ذلك هوًى لدى النظام فى تسعينيات القرن الماضى، فجاءتنى أيضًا رسالة تكدير.
وعندما عبرت عن شعورى بالانسحاق المصرى الرسمى أمام الولايات المتحدة الأمريكية وابنتها المدللة دولة إسرائيل، فعبرت عن ذلك توصيفًا بقولى فى حديث صحفى أجراه معى الدكتور محمود مسلم، حيث قلت نصًا: إن هناك من يتوهم أن الرئيس المصرى القادم لا بد أن يحظى بمباركة أمريكية ورضاء إسرائيلى، ويومها فتحت علىَّ أبواب الجحيم، وقاد حملة الانتقاد الأستاذ هيكل تحت عنوان (وشهد شاهد من أهلها).
محاولًا انتقاد الفكرة التى كان يرى أنها توصيف خبيث للوضع حينذاك فى مستهل القرن الحادى والعشرين، وقلت للأستاذ هيكل يومها: لقد استخدمتنى كقنبلة يدوية تلقيها على النظام الذى تراه قد شاخ وترهل على مقاعده. وعندما كتبت عن (الجيل المسروق كالطابق المسحور) الذى لا يقف عنده المصعد، اتصل بى وزير النقل يومها الدكتور عصام شرف قائلًا: نعم.. إن هناك أحيانًا أجيالًا ضائعة ولكنها تمثل فى النهاية الرافعة التى يتحرك بها المصعد إلى أعلى، ولم يكن النظام راضيًا عن ذلك التوصيف الذى يشير إلى الدور المسحور، ويرى أن ذلك نوع من التطلع المكتوم لتصعيد سياسى لن يتحقق.
وقد ألقيت ذات مساء محاضرة طويلة فى معهد التخطيط القومى بحضور شخصيات كبيرة أتذكر منها المفكر الاقتصادى اليسارى المصرى د.إسماعيل صبرى عبدالله، وقلت يومها: إن الولايات المتحدة الأمريكية تحب مصر ولكنها تحترم سوريا، مشيرًا إلى التفاوت بين شخصيتى مبارك والأسد أمام واشنطن وسياستها فى المنطقة، ويومها غضب الرئيس مبارك غضبًا شديدًا وطلب أن أقطع إجازتى وأعود إلى عملى فى فيينا بعيدًا عن جاذبية المحاضرات وهواية العبث بالمواقف كما كان يسميها.
إننى أكتب هذه الكلمات الآن فى إطار نوبة المراجعات التى أمضى فيها قبل إغلاق الملف كاملاً بحكم مضىّ السنين ورحلة العمر، ولقد لفت نظرى ما كتبه الصديق د.أسامة الغزالى حرب فى عموده عن اعتذاره لما وقع من بعض أبناء الجيل من حسن الظن بإسرائيل فى بعض المراحل، ومحاولة رأب الصدع من أجل الفلسطينيين خصوصًا والعرب عمومًا، فجاءت مذبحة غزة لكى تقطع الشك باليقين وتؤكد أنه لا جدوى للتعايش المشترك مع إسرائيل فى ظل سياساتها العنصرية العدوانية الخارجة على الشرعية الدولية.
إننى أكتب هذه السطور لكى أعترف بأن تغيير المواقف ليس خروجًا عن النص؛ لكنه قد يكون تعبيرًا عن الأمانة الفكرية، والاستقامة السياسية التى تقول أحسنت للفكرة الصائبة، ثم تتحفظ فى ذات الوقت على الرؤية غير الرشيدة.. إنها رحلة الزمان والمكان فى كل عصر وأوان!.