بقلم - مصطفي الفقي
حمل المثقفون العرب لواء الحركة القومية لعقود طويلة منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى الآن، وتوزعت أدوارهم تحت مسميات مختلفة بدءًا بالقوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين وكوادر البعث العربى الاشتراكى والحركة الناصرية التى اكتسحت الجميع فى فترة معينة إلى أن انتصر المشروع الإسلامى مؤقتًا على المشروع القومى بعد هزيمة عام 1967، وذلك كله إلى جانب عشرات التجمعات القومية والأحزاب السياسية التى سعت فى مجملها إلى توحيد الكلمة والسعى نحو الوحدة العربية بمراحلها المختلفة، والملاحظ أنها تمحورت فى معظمها حول القضية الفلسطينية ومعاناة ذلك الشعب المناضل لتحرير أرضه واستعادة سيادته بعد اعتراف دولى شبه كامل بهويته كيانًا سياسيًا لن يسقط أبدًا، ولا شك فى أن قيام دولة إسرائيل قد دفع الحركة القومية خطوات إلى الأمام وجعلها ذات زخم ومسئولية حتى بدت أكثر تماسكًا وتبلورت أوضح طريقًا بعد أن تمكنت من التواصل بينها وظهرت زعامات متشددة فى بعض دولها، وأذكر حاليًا اسمى القذافى وصدام حسين مع الفارق الكبير بينهما إلا أن المشترك الذى يجمعهما كان هو ارتفاع الصوت القومى بشعاراته المختلفة ودلالاته المتعددة، ولنا أن نسجل هنا الملاحظات التالية:
أولًا: إن المشرق العربى كان سباقًا تجاه الحركة القومية، فلقد كان المغرب العربى مشغولًا بحركات الاستقلال الوطنى وبعيدًا نسبيًا عن بؤرة الصراع العربى الإسرائيلى ولكنه ومع ذلك كان شريكًا فاعلًا فى تجسيد الأمانى القومية والتطلعات الوطنية، بل وأذهب بعيدًا لكى أقول إن العرب فى منطقة الشام كانوا هم رواد الحركة القومية سواء فى وطنهم الأم أو فى بلاد المهجر، ولا شك فى أن كتابًا مثل (النبي) لجبران خليل جبران كان انفتاحًا فلسفيًا للشهية العربية لكى تفكر وتتأمل وتمضى على طريق جديد، وجدير بالذكر أن ذلك الكتاب قد طبع منذ صدوره حتى الآن أكثر من عشرين مليون نسخة باللغات المختلفة، وقد تلقف الأشقاء فى المغرب العربى ودوله المختلفة تلك التطلعات القومية المشرقية الثائرة وتجاوبوا معها بل وانعكست لديهم أفكار الحرية ومبادئ الثورة الفرنسية التى درسوها فى مراكزهم العلمية ومعاهدهم الدراسية لكى تكون هى الأخرى نبراسًا وطاقة ضوء يهتدى بها الجميع، وليس غريبًا عنا ذلك التلاقى الحاد والقوى والعميق بين دول المشرق العربى والمغرب العربى لأن جناحى الأمة يتفقان على أن القضية الفلسطينية هى قضية العرب الأولى لذلك كان الالتفاف القومى حول تلك القضية مصدر تماسك ونقطة تلاقٍ مهما اختلفت الأهداف الأخرى أو تعددت تفاصيل السياسات الوطنية للدول العربية.
ثانيًا: إن دور المثقفين العرب لم يقتصر فقط على الجانب السياسى ولكنه تجاوز ذلك إلى الولوج نحو قضية الوجود العربى برمتها، وبدت مظاهر متعددة لذلك فأصبح مطلوبًا ممن يحكمون وحدهم الاستماع إلى الكلمة العليا لجماهيرهم الهادرة فى الشوارع الكبرى بالعواصم الأوروبية والعربية المختلفة، ولا شك فى أن جهاد المصريين الوطنى للفكاك من سطوة الحكم العثمانى قد التقى كشعار قومى مع أطراف أخرى للخلاص من مظاهر التخلف، لذلك فإن كل الحركات النهضوية فى العالم العربى قد وجدت أرضية مشتركة تجمع بين القواسم المتعددة فيها فارتبطت حركة التعليم والتنوير بالتيارات الوطنية فى الدول العربية المختلفة وأصبح التوصيف الأول كما لخصه شعار البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، وقد أسهم دور جمال عبد الناصر فى مصر فى تكريس المنطلق القومى على نحو غير مسبوق وقامت دولة الوحدة فى فبراير/ شباط عام 1958 إلى أن سقطت بمؤامرة الانفصال فى 28 سبتمبر عام 1961، وكانت الأجيال العربية الجديدة قد تفاعلت مع نداءات المثقفين ورواد الاستنارة والتحرر لكى يصبح الأمر برمته تيارًا كاسحًا أدى إلى صحوة قومية رفعت شعارات الحرية والاشتراكية والوحدة وتمكنت من اجتياح التيارات الراكدة والأفكار الجامدة لكى تجمع أطراف الأمة العربية خلف مثقفيها على نحو غير مسبوق.
ثالثًا: إن العروبة ليست رداءً نرتديه حين نريد ونخلعه متى نشاء ولكنها قدر ومصير وحياة بحيث تفجرت أحلام العرب بديلًا لأوهام الماضى وقرون القهر الاستعمارى حتى أصبحنا أمام بوابة المستقبل عندما انتشر التعليم العصرى وبرزت سمات الدولة الحديثة وأخذت بعض الدول العربية بمظاهر التمدين الاجتماعى مثلما حدث فى (تونس بورقيبة) أو التشدد فى الاستقلال الوطنى مثلما حدث فى (مصر عبد الناصر) أو الأخذ بمبادرات ديمقراطية سباقة مثلما حدث فى (لبنان العربي) أو (إمارة الكويت) بعد إعلان دولتها فى مطلع ستينيات القرن الماضي، ولا شك فى أن الحركة الوحدوية فى الجزيرة العربية التى قادها الملك عبد العزيز الكبير كانت توجهًا إيجابيًا نحو ميلاد أمة عربية جديدة وواعية فنشأت جامعة الدول العربية عام 1945 وتمكن الهاشميون من حكم سوريا والعراق لبضع سنوات ثم أسسوا المملكة الأردنية الهاشمية التى تمثل رمزا هاشميًا صامدًا أمام كل الظروف، وخاض العرب جميعًا حروب عام 1948 وعام 1956 وعام 1967 وعام 1973 فى سلسلة نضال متصل مازالت أصداؤها ماثلة فى المشهد العربى حتى اليوم. إن دور المثقفين العرب أكبر من أن يختزل، وأعظم من أن ينسي، وأقوى من أن يضيع.