بقلم - مصطفي الفقي
حملت الأسابيع الأخيرة في طياتها ومضات من الضوء الذي أشرقت شمسه على الأمة العربية وكانت بعض ملامحه ذات طابع رمزي، فمصر تستضيف أكبر مؤتمر عالمي متخصص بتغير المناخ وتنجح فيه كدولة عربية نجاحاً ملحوظاً لتتجه الأبصار إلى مدينة شرم الشيخ المصرية، ولا شك في أن اختيار مصر لهذه الدورة من دورات ذلك الصرح الدولي الكبير الذي يهم كل مخلوق على أرض هذا الكوكب، هو دلالة ناصعة على حسن السياسة ودقة الاختيار مهما كانت الظروف، وهو الأسبوع نفسه تقريباً الذي تتهيأ فيه الفرق الرياضة من أنحاء العالم للتوجه إلى دولة قطر العربية للمشاركة في بطولة كأس العالم لكرة القدم، لما يلحق بها من اهتمام دولي وحضور واسع.
ويلحق بهذين الحدثين الرمزيين مواقف أخرى فرعية تترك بصماتها على مر الأزمان، إذ إن معدلات النمو غير المسبوقة في الإنتاج السنوي للسعودية من عوائد التنمية بمظاهرها الجديدة في ميادين السياحة والزراعة والصناعة تبدو مؤشراً إيجابياً إلى الجهد العربي، ولا شك في أن هذه العلامات يقابلها على الجانب الآخر علامات مضيئة للدول العربية المختلفة، فلكل منها ميزة نسبية تتألق في عالم اليوم، ولا شك في أن اقتحام العرب للساحة الدولية بأحداث كبرى مثل استضافة المؤتمر العالمي لتغير المناخ وبطولة كأس العالم في كرة القدم وغيرهما من المشاريع التي نشأت عن أفكار غير تقليدية ورؤى لم تكن معتادة من قبل، لا شك في أن ذلك كله يعطي صورة جديدة عن العرب في أعين العالم، وهنا نطرق الملاحظات التالية:
أولاً دعونا نعترف أن صورة العربي في مجملها ليست في أفضل حالاتها عبر تاريخها المعاصر والحديث، إذ إن الصورة الذهنية للعربي تشكلت من خلال خمس كلمات تبدأ بحرف الباء في الكتابة اللاتينية، فصورتنا نحن العرب لديهم تبدأ بصفة الـ "بومبر"، أي الإرهابي الذي يطلق القذائف بلا حساب على من حوله، والثانية هي الـ "بازار"، أي أن العربي مغرم بالتفاوض الرخيص للأسعار والجدل الدائم، أما الصفة الثالثة فهي الـ "بيلي دانسر" أي الراقصة الشرقية، فهم يتصورون أن العرب يعيشون فقط في مجتمعات الرفاهية والحفلات الماجنة، وتأتي الصفة الرابعة فيقولون عن العرب أنهم "بدويون"، أي بدو الصحراء المتخلفين، متناسين أن معدلات التعليم الراقي في عدد من الدول العربية الصحراوية قد فاقت دولاً متقدمة في الغرب، وأصبحت المنطقة العربية مصدرة للعلماء وليست مستوردة لهم، أما الخامسة فهي الـ "بليونير"، أي إن العربي يملك أموالاً طائلة ويتصف بالثراء الفاحش، وتلك صورة ظالمة للغاية لأنها لا تعبر عن واقع الحقيقة وإنما تبدو وكأنها صفة لصيقة بالدول النفطية، متناسين أن تلك الدول قامت على حضارات قديمة لأجدادهم ولم تكن أبداً وليدة النفط بين يوم وليلة، وهكذا نجد التشويه الحقيقي لصورة العربي في كل اتجاه مع محاولة طمس معالم هويته وتحويله إلى أداة تتخبط بلا سبب وتتحرك بلا وعي.
ثانياً تشكلت الأمة العربية في أقطارها الحديثة من تجمعات بشرية أحدها قام على حضارة النهر (Cult of Rive) والثاني قام على حضارة الصحراء (Cult of Desert)، لكن نقطة التلاقي بين الاثنتين هي الميراث الطويل من التقاليد المتأصلة في تكوين العربي منذ طفولته والركام الثقيل من المفاهيم الثقافية التي تمتد من الحضارات الأولى من فرعونية وفينيقية وبابلية وآشورية وسومارية إلى أن وصلنا إلى درجات عالية من التميز العلمي والتفوق البحثي، فالمنطقة العربية هي وريثة الحضارات الكبرى وحاضنة الديانات السماوية الثلاث، بل تكاد تكون هي مركز الثقل الروحي على كوكب الأرض، ولا بد من أن يستثمر العرب هذه الخصائص التاريخية التي ارتبطت بهم وعاشت معهم لكي يكونوا مرة أخرى دعاة بعث مختلف وميلاد جديد، ولا بد من أن تزول الصورة السلبية التي ألصقها بعضهم افتراء بالعرب والعروبة، وأن يستيقظ الجميع على حقائق عصرية لا أن يعيشوا في أوهام ماضوية، ولقد حضرت ذات يوم محاضرة تذكارية في جامعة برلين عن الحسن بن الهيثم وكان المتحدث فيها هو صديقي الراحل العالم الحاصل على جائزة نوبل الدكتور أحمد زويل، ورأيت كيف احتشد في القاعة الكبرى للجامعة أكثر من 2000 شخص معظمهم علماء في الفيزياء والضوئيات، وكانت تظاهرة كبيرة اعترف فيها الغربيون أمامي بفضل العرب على المعرفة الإنسانية ونقل العلوم الحديثة التي ساعدت في ميلاد عصر النهضة الأوروبية، فنحن لدينا الكثير ولكننا نبدو أحياناً كالمحامي البليد الذي يدافع عن قضية عادلة ورابحة بالضرورة.
ثالثاً الصراع العربي - الإسرائيلي وملحقاته من حرب وإرهاب ودماء ودموع ولاجئين ونازحين شوه إلى حد كبير صورة العربي المعاصر أمام الآخر، وجعله صاحب قضية يستجدي الحلول لها حيث تخضع للمزايدات الدولية والقوى الإقليمية، وكان من نتائج ذلك أن دمغه كثيرون بالعجز بل وخلطوا بين كفاحه المسلح من أجل وطنه السليب وبين الممارسات الإرهابية التي شاعت خلال العقود الأخيرة على نحو غير مسبوق، وجعلت العرب هم المطاردون في المطارات والواقفون أياماً في طوابير التأشيرات، لأن جماعة منا قد خرجت علينا فأساءت إلينا، ولكي تتبدل هذه الصورة وتتغير فنحن بحاجة إلى التعليم والثقافة والامتزاج بروح العصر والاختلاط بالمفاهيم الصحيحة التي يجب أن يمضي عليها الجميع في وقت تواجه فيه البشرية تحديات كبرى من نقص الطاقة وندرة المياه وتلوث البيئة وتغير ملحوظ في المناخ وعبث واضح في قضايا حقوق الإنسان، فالتحديات كثيرة والعرب مستهدفون لأسباب معقدة يطول شرحها، بدءاً من الحقد على الثراء ووصولاً إلى نوع من الغيرة القومية ومروراً بأنهم يشكلون أمة لديها ما يكفي لشراء غذاء شعوبها لكنها لا تنتجه بل تعتمد على غيرها، وقد التقط الداهية هنري كيسنجر هذه الملاحظة عام 1973 وقال في غضون الحظر العربي على البترول إلى الدول المساندة لإسرائيل وقتها تعبيراً شهيراً هو Food For Crude)) أي الغذاء في مقابل النفط، وتلك العبارة الخبيثة تجسد الرؤية المغلوطة للغرب تجاه العرب.
رابعاً لعبت التكنولوجيا الحديثة والتقدم الكاسح في وسائل الاتصال دوراً كبيراً في تعرية الحقائق وكشف ما كان خافياً في خزائن الغرب من دعايات وادعاءات بل وأوبئة وأمراض، حتى أصبحت الحرب أداة مشروعة لإنقاص عدد البشر ومواجهة مأساة الثمانية مليارات نسمة التي وصل إليها عدد البشر حالياً، كما أن الانفتاح الإعلامي جعل العرب يدركون كثيراً مما يدور حولهم ويعلمون خفايا لم تكن متاحة من قبل، فالتآمر أصبح مكشوفاً والصراع أضحى ملموساً في عالم تتراجع فيه الأسرار وتطفو الحقائق على السطح ولو بعد حين.
خامساً أن الشراكة العربية في أحوال العالم وشؤون العصر قد بدأت تتزايد، وهو أمر قد لا يرضي قوى كثيرة من الطامعين والمزاحمين والكارهين، خصوصاً في ظل غيبة التنسيق العربي وتوزيع الأدوار بذكاء بين الدول العربية، كل وفق ميزاته النسبية حتى يستعيد العرب جزءاً من الثقة المفقودة تجاه الآخر إلى جانب النظرة القلقة أحياناً تجاه الغير، فالأمم القوية تقوم على المخاطرة وروح المغامرة والقدرة على اكتشاف مكانها مع غيرها، مع إمكان اختراق أساليب الحجب وطرق المنع من الوصول إلى الدولة الوطنية العصرية القائمة على جناحي الديمقراطية والتنمية مهما كانت الظروف أو تعددت الأسباب.
هذه رؤية مشاهد عربي لما يشعر به من نظرة الآخر إلى أمته، إنه مشاهد يدق الناقوس ويدعو إلى اليقظة القومية العصرية بمعناها الحديث ودلالتها المؤثرة في أجيالنا المقبلة.