بقلم - مصطفي الفقي
أثارت لدى الزيارة الأخيرة لرئيس وزراء الهند إلى مصر ذكريات لسنوات أربع قضيتها فى العاصمة الهندية دبلوماسيًا فى السفارة المصرية ما بين أعوام 1979 و1983 ولقد تعلمت فى تلك السنوات القليلة ما يقرب من ثلاثين بالمائة على الأقل من المحصول المعرفى الذى تمكنت من حيازته على مر السنين، فالهند كما يقول الفيلسوف العربى البيرونى هى أرض الفضيلة والرذيلة، وهى أرض التقدم والتخلف، وهى أرض الغنى والفقر، إنها متحف الزمان والمكان فى كل أوان، تركت بصمتها على شعوب كثيرة لا فى جنوب آسيا وحدها ولكن فى المحيط الدولى بكل أطرافه، فالهند أرض الأساطير وبلد الحكمة ومنطلق التعددية القائمة على التسامح المشترك بدلًا من المصادمات والمشاحنات ونوبات التعصب، إنها دولة أصبحت من الدول العشر الصناعية الكبرى فى العالم، وهى دولة فضاء ودولة نووية ودولة اكتفاء ذاتى فى الحبوب الغذائية، ودولة تفوق كاسح فى مقتنيات الحاسب الآلى وعالم الكمبيوتر، إنها دولة الأرقام والأحلام، دولة الديانات والثقافات تداخلت معها الحضارة الإسلامية بوصول المغول إليها حتى أصبحت كثير من الآثار على أرضها هى نتاج لنماذج القباب والمآذن التى يجسدها تاج محل بشموخه وعبقرية بنائه وحتى الحدائق المغولية القديمة ما زالت شاهدة على ذلك التزاوج الثقافى الذى تعيشه الهند برغم انفصال دولتين جارتين هما باكستان وبنجلاديش منذ انتهاء الوجود البريطانى الذى وصل فى شبه القارة الهندية إلى مرحلة التقسيم غداة الاستقلال عام 1947، إنها الدولة الكبرى التى اختارت التمسك بالأعراف والتقاليد الموروثة، وحافظت على الشخصية الهندية بما لها وما عليها عبر السنين فى العقائد والآداب والفنون ووقفت ندًا أمام جارة كبرى هى الصين وتمكنت فى محيطها الإقليمى أن تصنع وجودًا فى ذلك الفضاء الآسيوى حتى جعلت له اسم الهند الصينية فى المناطق الواقعة بين الهند والصين بعدًا وقربًا لكل منهما.
إنها الهند العظيمة التى تمسكت بالهندوسية وجعلت منها ثقافة وأسلوب حياة وليست مجرد ديانة فقط، ووقفت فى صلابة وسط المعترك الدولى اعتمادًا على فلسفة المهاتما غاندى وأيديولوجية مهندس الهند الحديثة جواهر لال نهرو الذى أرسى قواعد الدولة العصرية فى جمهورية برلمانية تعتبر أكبر ديمقراطيات العصر على الإطلاق، وهى أيضًا هند أنديرا غاندى وابنها راجيف اللذين دفعا حياتهما ثمنًا للصراعات بدءًا من الاعتداء على المعبدالذهبى للسيخ عامى 1983 و1984 عندما تلقت أنديرا رصاصات من أحد حراسها الذين ينتمون إلى تلك الطائفة ذات البأس الشديد وأعنى بها طائفة السيخ والتى يبدو تأثيرها أكبر بكثير من حجمها البشرى، إننى ما زلت أتذكر شوارع نيودلهى القديمة ومسجدها العتيق وملايين البشر بلا مبالغة يستمعون إلى تلاوة مباشرة من الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأنا أجلس إلى جواره لأرى مشهدًا لا نظير له فى الحياة وهو يتلو القرآن وحوله كتل بشرية لا يمكن التعرف على الوجوه فيها بسبب الزحام والحماس وجذوة الإيمان، بينما تمرح الأبقار حرة فى شوارع العاصمة والمدن المختلفة، وقد تقفز القرود فوق السيارات التى تمرق فى الشوارع، فهناك تآلف كامل بين الكائنات بلا تفرقة أو تمييز، ولست أنسى ما حييت أن أستاذنا الراحل الجراح الكبير د.إبراهيم بدران قد جاءنى فى الهند زائرًا هو والسيدة قرينته فى صيف عام 1983 وأنا ألمم أغراضى للعودة أنا وأسرتى إلى الوطن وحكيت أمامهما قصة عراف هندى شهير كان نهرو ومن بعده ابنته أنديرا يؤمنان بما يقول ويتوقعان المستقبل من نبوءاته، فاستقدمته لهما على امتداد يوم كامل، وكان يأخذ كل فرد منا على حده ويقرأ له مستقبله كاملًا، وعندما جاء دورى وكان ذلك فى شهر يوليو قال لي: إنك عائد إلى بلدك، ولكنك سوف تكون فى القصر، قلت له: أى قصر، فقال: القصر المشهود، ولم أفهم معنى ما يقول وقلت مازحًا لزوجتى والضيوف إننى على ما يبدو سوف أتعرض لوعكة صحية وأدخل قصر العيني! وشاء الله أن تتحقق النبوءة وأكون بعد ذلك بثلاثة أشهر فى القصر الجمهورى أعمل مع الرئيس الراحل مبارك فى غيبة مستشاره القدير أسامة الباز الذى تعرض لوعكة صحية طويلة، وكانت تلك هى مقدمة عملى لسنوات ثمان بعد ذلك فى القصر الجمهورى، ومع ذلك فإننى قلت وقتها رغم دهشتى الشديدة كذب المنجمون ولو صدقوا، ولكننى عندما أقرأ الكف المشترك للقاهرة ونيودلهى أرى تعاونًا وثيقًا يجدد روح الماضى عندما كنا نشترك معًا فى تصنيع طائرة ونقود معًا أهم حركة سياسية دولية بعد الحرب العالمية الثانية وأعنى بها حركة عدم الانحياز، إننى أردد مع أمير الشعراء ما قاله فى تحية المهاتما وهو يعبر قناة السويس فى بارجة إلى مؤتمر المائدة المستديرة فى لندن للبحث فى مستقبل الهند قبل الاستقلال، لقد قال الشاعر العربى الكبير أحمد شوقى:
سلام النيل يا غاندى
وهذا الزهر من عندى
مرحبًا بعودة الأصدقاء والعود أحمد مع أملى فى استمرار قوة الدفع بين القاهرة ونيودلهى بحيث لا تكون حماسًا مؤقتًا بمناسبة زيارة رئيس وزراء الهند لمصر، ولكن تظل قوة الدفع دائمًا فالفارق بيننا وبين الهنود فى الأفكار التنموية أننا كنا نبدأ ولا نستمر، أما هم فيستمرون بجدية مهما تكن الظروف صعبة والضغوط شديدة.