بقلم - مصطفي الفقي
عاش العرب منذ قرون عدة في جوار قومي مع تجمعات بشرية ربما لا تنتمي إلى العروبة تاريخياً ولكنها قبلت الإسلام عقيدة وديناً، وأنا لا أقصد بذلك القوميات التي شكلت دولاً مستقلة مثل الفرس في إيران والترك في الأناضول وغيرهم ممن قبلوا الإسلام ديناً ولم يندمجوا في العروبة قومية، ذلك أني أظن أن المعيار الأصيل للتفرقة إنما يكمن في عنصر اللغة، فالعربي الحقيقي هو كل من كانت أو أصبحت العربية لغته الأولى ولكن ذلك لا ينفي أن هناك قوميات اندمجت في العروبة وإن احتفظت بلغتها الأصلية وهويتها التاريخية وربما أقصد بذلك الأكراد شرقاً والأمازيغ غرباً.
يمثل الكرد عنصراً سكانياً موزعاً على دول عدة نذكر منها العراق وإيران وسوريا ثم تركيا وقد توجد منهم عناصر موزعة في دول أخرى بنسب متفاوتة واختلط الأكراد بالعرب تاريخياً حتى إن كثراً لا يعرفون أن صلاح الدين الأيوبي كردي وأن أمير الشعراء أحمد شوقي كردي الأصل أيضاً وأن عدداً كبيراً من المشاهير تجري في عروقهم دماء كردية نتذكر منهم أسماء عدة بدءاً من المفكر المصري عباس محمود العقاد وصولاً إلى سندريلا الشاشة سعاد حسني مروراً بعائلات كثيرة توزعت في أنحاء العالم العربي وتحدثت اللغة العربية على رغم أصولها الكردية في مصالحة تاريخية أدت إلى التعايش المشترك.
أما الأمازيغ، فهم تجمع لقبائل من الشمال الغربي ومنطقة جبال أطلس وغيرها في سلسلة متصلة من ليبيا إلى المملكة المغربية مروراً بالجزائر وتونس، وربما جرت في عروقهم دماء أوروبية أو بحر متوسطية ولهم لغتهم القومية التي اعترفت بها دول عربية في شمال أفريقيا باعتبارها لغة ثانية تعكس قومية الأمازيغ وأساليب تفكيرهم وتعبر عن حال الاندماج الكامل بين العناصر السكانية في الشمال الأفريقي.
برزت من القوميتين الكردية والأمازيغية عناصر تصدرت المشهد السياسي في بلادها وتعايشت مع العروبة بصورة كاملة وما زلت أتذكر علاقتي القوية بالرئيس العراقي الراحل جلال طالباني الذي كان يتصل بي إذا وفد إلى القاهرة فأزوره في الفندق وأسعد بروحه المرحة ورؤيته المعتدلة للأمور في كل اتجاه، وكان رحمه الله راوياً للشعر العربي مع حس إنساني مرهف حتى إنه آثر ألا يوقع على قرار تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين لأن طالباني كان من أنصار إلغاء تلك العقوبة دولياً.
ولا يلحظ أحد لدى معظم الأكراد فروقاً عن أشقائهم العرب إلا من خلال بعض العناصر الفرعية مثل التحدث بلغتهم أحياناً إلى جانب اللغة العربية وقد ينسحب الأمر نفسه على أكراد تركيا وسوريا بل إيران وروسيا أيضاً. وعلى الجانب الآخر فقد أدهشني أن عدداً كبيراً من الأصدقاء في دول المغرب العربي اكتشفت فيهم بعد أعوام من الصداقة أنهم من أصول أمازيغية، فالتفرقة صعبة بين الأصل العربي ونظيره الأمازيغي من بين سكان الشمال الأفريقي، وربما يدهش كثيرون إذا عرفوا أن مصر تضم أقلية أمازيغية تستوطن واحة سيوة وغيرها من الواحات المجاورة إلى جانب منطقة (الحمام) على ساحل البحر المتوسط بعد الإسكندرية بمسافة غير بعيدة وهم بالطبع يتحدثون العربية كغيرهم من السكان ولكنهم يجيدون أيضاً لغتهم التي يعتزون بها ولكن لا يتعصبون لها، لذلك فالعروبة تحتوي في عباءتها الواسعة عناصر من قوميات مجاورة تعايشت عبر التاريخ واندمجت اندماجاً كاملاً في المجتمعات العربية المحيطة بها.
بينما يسعى الأكراد إلى وطن قومي مستقل في بعض الدول التي يعيشون فيها إلا أن الأمازيغ على الجانب الآخر لم يسلكوا الطريق نفسه بل تحمسوا لهويتهم الوطنية في أقطارها المختلفة. وتحرك الملك محمد السادس عاهل المغرب وحكومته منذ أعوام للاعتراف باللغة الأمازيغية لغة ثانية بعد العربية في المملكة المغربية وأعتبر تلك خطوة استباقية ذكية تؤكد الروابط العميقة والاندماج الكامل للأمازيغ في الدول التي عاشوا فيها وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من تكوينها البشري وتركيبتها السكانية، وإذا كان الأمر كذلك فربما يكون من الأفضل طرح بعض الملاحظات حول الأقليات العرقية والدينية في الوطن العربي. وأبادر هنا إلى التأكيد أن عنصر اللغة هو العنصر الحاكم في الرابطة التي تجمع البشر حتى لو كانوا من أصول مختلفة وقوميات متعددة، دعنا نستكشف الأمر:
أولاً: إن تعبير الأقلية وفقاً لمفهوم المدرسة الأميركية في علم الاجتماع يشير إلى خصائص معينة تميز أصحاب الأقلية عن غيرهم وفي مقدمتها الاختلاف في اللون، فالأميركيون يستمدون التعريف الشائع للأقلية من رؤيتهم لوضع الأميركيين الأفارقة أو من أصول سوداء لكي يكونوا هم التعبير عن الأقلية ولكننا نختلف معهم في ذلك، فالأقلية تعبير عددي ينصرف إلى عدد المنتمين إلى اختلافات معينة عن المجموع الكلي للسكان في بيئة محيطة، فالأقباط في مصر على سبيل المثال جزء لا يتجزأ من النسيج السكاني للبلاد وهم مواطنون أصليون في تلك البقعة من الأرض التي عاشوا فيها تحت مختلف الظروف، وعندما ينزلق بعضهم فيسميهم أقلية فإنما يفعل ذلك وفقاً للمجموع العددي وحده فلقد أثبتت فحوص الـ(DNA) أن 97 في المئة من العنصر المصري جاؤوا من جينات مشتركة وهو ما يؤكد ولا يدع مجالاً للشك أنه لا توجد خصائص ذاتية لأقلية معينة في مصر حتى إن اختلفت الألوان وتباينت بعض المظاهر الشكلية، فالسلوك الاجتماعي واحد والوعي الثقافي مشترك والعادات اليومية لا تختلف، بل إن الأعياد الدينية تتعانق أحياناً مثل ما يجري هذا العام بين عيد الفطر المبارك وعيد القيامة المجيد وفقاً للتقويم المعمول به في الكنيسة القبطية، كذلك فإن المأكل والمشرب والمزاج العام واحد تماماً، إذ لا يمكن أن يكتشف شخص نتيجة اختلاف ديانته ولكن ربما باختلاف درجة تعليمه ومستوى الوعي الذي يحوزه بالنسبة إلى الدنيا من حوله.
ثانياً: هناك أقليات صغيرة مثل الصابئة في العراق وغيرها من أصول سابقة على الإسلام وهي قوميات محدودة العدد مقهورة أحياناً، ويكفي أن نتذكر ما فعله الداعشيون تجاه بعض تلك الأقليات من قتل وتعذيب وسبي وعدوان غير مبرر بما أدى إلى ظهور المحاولات الساعية إلى رصد حركة الأقليات في العالم العربي والدفاع عنها عند اللزوم ووضعها في إطار قومي يبدو أقوى من أسباب الاختلاف في كل المراحل، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فلعبت الأقليات العددية أدواراً مشهودة في الدفاع عن أوطانها جنباً إلى جنب مع أشقائهم في الوطن ويكفي أن نتذكر دور الأقباط وهم الذين يمثلون أكبر أقلية عددية بين المسيحيين في الشرق الأوسط فقد قاموا بأدوار معترف بها في الثورة الشعبية عام 1919 واحتجاجات 30 يونيو (حزيران) 2013 فهم جزء لا يتجزأ من الوطن يعيشون المشاعر نفسها والرغبات ذاتها والتطلعات نفسها.
ثالثاً: الأحداث التاريخية التي جرت على الساحة العربية تبدو كاشفة عن المشاعر المشتركة وليست منشِئة لها، فالروح الواحدة والمزاج المشترك يؤكدان أن محاولات الاستخدام السلبي للأقليات العددية في الوطن العربي محاولات مكتوب لها الفشل حتى لو نجحت بعض الوقت في إثارة بعض ضعاف النفوس من الغالبية العددية والأقلية العددية على السواء، فالضمير القومي المشترك الذي يجمع كل الأقليات العددية في العالم العربي هو الذي ينتصر في النهاية على كل محاولات التفرقة وأساليب زرع الفتنة وكل الشواهد المعاصرة تؤكد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.
هذه رؤية مباشرة لدور الأقليات العددية في العالم العربي والنتيجة النهائية هي الاعتراف بأنها جزء لا يتجزأ من نسيج الأمة وتاريخها القومي.