توقيت القاهرة المحلي 13:35:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثقافة النظافة

  مصر اليوم -

ثقافة النظافة

بقلم - مصطفي الفقي

يتوهم الكثيرون فى حياتنا المعاصرة أن النظافة سلوك إنسانى مكتسب، بينما نراها نحن ثقافة متأصلة لدى شعوب بعينها وأمم بذاتها ولذلك فإننا نتحدث اليوم عن ثقافة النظافة، أى الخلفية التى تقف وراء الحرص على نظافة الإنسان والمكان فى كل زمان، والذين اهتموا بالتاريخ الاجتماعى لمصر يدركون أن ذلك السلوك لم يكن دائمًا فى طليعة أولويات المصريين فى قرون السيطرة الأجنبية والظلام الثقافى الذى سيطر على البلاد والعباد، ويمكن الرجوع إلى ما كتبه المقريزى وابن إياس والجبرتى وغيرهم من مؤرخى المجتمع المصرى حتى ندرك على الفور أن المصرى لم يهتم بمفهوم النظافة ما بعد العصر الفرعونى والتداخل الإغريقى والسيطرة الرومانية، فالمصرى القديم الذى كان يقسم بأنه لم يلوث مياه النهر لم يعد هو أبدًا الطبعة المصرية فى العصور القبطية والعربية والإسلامية، بل ظهرت عليه خصائص غياب الاهتمام بالنظافة والتركيز على مفهوم الطهارة بالمعنى الدينى دون النظافة بالمعنى الجسدى، فالمصريون الذين كانوا يدفنون الموتى فى منازلهم ولا يقبلون على الحمامات الشعبية إلا فى المواسم والأعياد هم أنفسهم الذين تعودوا على مناظر القمامة المتراكمة والبرك الآسنة بالمياه الملوثة، ولقد أسهم فى تزايد المشكلة أثر الأعداد الكبيرة فوق الأرض المصرية، فالزحام يصنع بالضرورة مصادر للقمامة وأسبابًا للتلوث، وقد يقول قائل: ويحك إن القاهرة حازت جائزة أفضل المدن عام 1925، وقد يكون ذلك صحيحًا ولكن فى إطار الوجود الأجنبى فى العاصمة التى تضم أشتاتًا من البشر من كل النوعيات والجنسيات حتى دخلت الفنادق الحديثة إلى أرض الكنانة وظهرت القاهرة الخديوية بمبانيها الرائعة واعتبرنا ذلك توقيتًا للتحول نحو تأصيل ثقافة النظافة ولكن للأسف فإن ما حدث كان هو العكس، إذ تراكم على الأرض المصرية أجيال من فقراء الوطن وذوى الحاجة وتكدس المصريون فى مواقعهم المختلفة على غير توقع وبرزت البطالة المقنعة تعبيرًا عن الأعداد الهائلة الوافدة على أرض مصر كل عام، بل إننى أتذكر أن عدد سكان مصر قد تضاعف فى عصر الرئيس مبارك وحده وخلال ثلاثين عامًا من أربعين مليون نسمة إلى ثمانين مليون نسمة ولنا أن نتخيل مخلفاتهم وبقايا أطعمتهم والتلوث الناجم عن استخداماتهم، فتحالفت نظرية الأعداد الكبيرة من الملايين مع الفقر الشائع لكى تتحول النظافة بل والنظام أيضًا إلى مظاهر ترفيه لا تعد من الضرورات! كما طال التلوث أعظم الأنهار وأقدسها نهر النيل الذى تلقى فيه الحيوانات النافقة بل إن بعض قنوات الصرف الصحى كانت تصب فى بحيراته الشمالية، ولا شك أن المصرى القديم الذى كان يقسم بأنه لم يلوث مياه النهر قد أصبح يتقلب فى مرقده وهو يرى الأبناء والأحفاد يفعلون ما يفعلون وذلك رغم انتقال العالم كله إلى مظاهر العناية بالنظافة والاهتمام بها والارتقاء بأساليب التعقيم والحرص عليها من خلال الوقاية والعلاج والاهتمام بالأحوال الصحية ومكافحة الأوبئة، ولكن ظلت النظافة عوارًا أمام أعين المصريين لا يكتشفون غيابها ولا يهتمون بالإهمال فيها فترى الشقق الفاخرة والعمارات الرائعة محاطة بأكوام القمامة والنفايات البشرية ويراها السكان، قادمين وذاهبين، دون أن يحركوا ساكنًا، فقد تعودت الأبصار على القبح واستأنست الملايين بمظاهر التدهور وعوامل التراجع فى مظاهر النظافة كما ظهر أطفال الشوارع يحملون وصمة الفقر وخطيئة التمزق العائلى ويتخذون من الكبارى القديمة أسقفا يعيشون تحتها فى مأساة بشرية وأخلاقية تفوق الخيال، ويتحدث المصريون من حين إلى آخر عن مواجهة تلك الظواهر، وأشهد صادقًا أن بعضها قد بدأ يختفى الآن وأن يد الإصلاح قد امتدت إلى الشارع المصرى، ولكنها لم تتغلغل بعد فى أعماق الإنسان المصرى الذى ظل فى مجمله على ما كان عليه تحت وطأة الانفجار السكانى والأعداد الهائلة من البشر فى مساحات ثابتة من الأرض، ويكفى أن نتذكر هنا أن المصريين يتزايدون بمعدلات مفزعة تتجاوز المليونى نسمة سنويًا وهو وحده يمثل تعداد دول صغيرة من خلال هذه الزيادة السنوية الواضحة زيادة ونقصانًا بدرجات طفيفة تؤدى فى النهاية إلى أن تصبح النظافة فى آخر الأولويات ولا تستأثر إلا بالقدر المحدود من الاهتمام، وأود أن ألفت النظر هنا إلى حقائق ثلاث:

أولًا: إن النظافة باعث شخصى ينبع من ذات الإنسان وليس خبرة مكتسبة إلا فى قليل من الأحيان امتدادًا للنظام التعليمى أو جهود بعض الأسر، والغريب أن الدين الغالب فى مصر وهو الإسلام يدعو إلى النظافة ويحث عليها والوضوء الدينى من مظاهر الحياة اليومية للفرد ذكرًا وأنثى ولكن الغريب أن الأمر يختلف تمامًا عن ذلك، فقد استقرت فى أعماق كثير من المصريين عادة القبول بالواقع واستمراء غياب النظافة والاستسلام للتلوث البصرى والسمعى على مدار الساعة.

ثانيًا: إن الدولة المصرية العصرية التى قامت بعملية غزو شاملة للعشوائيات فى محاولة للإحلال والتبديل على امتداد خريطة الوطن كفيلة على المدى المنظور بأن تغير من العادات المصرية وأن تغرس النظافة سلوكًا فى حياة الأجيال الجديدة، وجيلى ما زال يتذكر التعليمات على الغلاف الأخير للكراسات المدرسية بالدعوة إلى غسل اليدين والأسنان ونظافة الوجه واكتساب العادات الراقية فى الحياة اليومية.

ثالثًا: إن الأديان السماوية والأرضية دعت كلها إلى النظافة ولم تكرس أبدًا مفهوم القبول بما هو قبيح ولم تقبل أيضًا بوجود ما هو قذر، ويكفى أن نتذكر الملايين من الهندوس وهم يسبحون فى الأنهار المقدسة خلال الأعياد السنوية، فالنظافة طقس دينى قبل أن تكون سلوكًا بشريًا مكتسبًا.

هذه ملاحظات عابرة حول ثقافة النظافة فى حياتنا المعاصرة خصوصًا ونحن نطرق أبواب المستقبل نحو حياة أفضل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثقافة النظافة ثقافة النظافة



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 00:03 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

حكيمي علي رأس المرشحين للفوز بجائزة أفضل لاعب في أفريقيا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 15:09 2024 الجمعة ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

الحكومة المصرية تمنح أموالاً "كاش" لملايين المواطنين

GMT 17:19 2021 الثلاثاء ,17 آب / أغسطس

حكم صيام الأطفال يوم عاشوراء

GMT 18:05 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

خالد جلال يُعلن قائمة البنك الأهلي لمواجهة انبي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon