بقلم - مصطفي الفقي
عندما أثير موضوع نقل بعض المقابر من أماكنها التاريخية إلى غيرها سعيًا نحو تطوير محاور القاهرة وإعادة تنظيم بعض المناطق القديمة فيها تحركت على الفور أصوات تطالب بإعادة النظر فى الأمر برمته، ولما كان الناس يقولون دائمًا فى عفوية وبدون وعى (إن الحى أبقى من الميت) فإن الكثيرين تحمسوا للتغيرات المطلوبة، ولكن بقيت أعداد كبيرة أيضًا تشير إلى قدسية الموت وحرمة الموتى وضرورة إعطاء من رحلوا ما يستحقون من توقير واحترام، وكنا قد تحدثنا فى هذا الشأن فى خريف عام 2022 فى حديث متلفز بالصوت والصورة جرت إذاعته مؤخرًا لتأكيد صدق ما نقول وقد يكون هناك توارد فى الأفكار بيننا وبين غيرنا فى الدعوة إلى هذا الأمر لأنه يمثل قضية عامة، ولى مع صديقى العزيز الكاتب الكبير محمد سلماوى احتمال حدوث توارد أفكار فى مناسبتين كبيرتين الأولى عندما كنت فى بيروت أتحدث أمام وزير الثقافة اللبنانى تمام سلام بحضور صاحب السمو الملكى الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربى فى مؤتمرها بالعاصمة اللبنانية فدعوت يومها إلى تبنى اقتراح من جامعة الدول العربية بعقد قمة ثقافية يناقش فيها الملوك والرؤساء والأمراء وضع الثقافة العربية, باعتبارها مفتاح الطريق نحو الأفضل وفى ذات الوقت كان صديقى العزيز أ.سلماوى يترأس اجتماع اتحاد الكتاب العرب المنعقد فى ليبيا وأبدى اهتمامًا بذات الفكرة، وهو توارد أفكار لست أنا ولا هو مسئولين عنه ولكنه تقارب الاهتمامات عند التفكير فى الشأن العام، أما بالنسبة لموضوع (مقبرة الخالدين) فقد أيد ما ذهبنا إليه وقتها الشاعر والكاتب فاروق جويدة فى عموده بالأهرام وساندنا فى ذلك أيضًا الكاتب الصحفى أ.سليمان جودة فى عموده اليومى وبدأ الرأى العام يتحرك مطالبًا بإنشاء مقبرة للخالدين أسوة بدول كثيرة فى الغرب، وفى مقدمتها فرنسا على اعتبار أن تلك المقابر الجماعية للشخصيات المرموقة مفكرين وأدباء وعلماء وفنانين سوف تتحول فى النهاية إلى مزار سياحى ومنطقة جذب أثرى لكثير من القادمين إلى أرض الكنانة التى يحتوى ثراها شخصيات تاريخية وأضرحة شهيرة يعرفها الدانى والقاصى، ولكن بقى السؤال الذى يلح على خاطرى فى الأسابيع الأخيرة هو هل استخدام لفظ الخالدين يبدو أمرًا مقبولًا؟ فالخلود لله وحده، وعندما أطلقنا على مجمع اللغة العربية مجمع الخالدين كانت عبارة تكريم أكثر منها ذات دلالة حقيقية، وكان أولى بنا أن نقول إننا نطالب بإقامة مقبرة (لأصحاب المواقف الخالدة) وهنا يتم ضبط المصطلح ليكون التعبير أكثر دقة لغويًا وأخلاقيًا، ولنا هنا عدة ملاحظات هى:
أولًا: إن البحث فى هذا الأمر ليس جديدًا كما أن نقل بعض المقابر هو الآخر ليس أسلوبًا مستحدثًا، فعندما جرى إنشاء الطريق الدائرى نقلت رفات من أماكنها التى تقاطعت مع الطريق الجديد وكان من بينها عدد من مقابر اليهود المصريين وجرت مشاورات ومحادثات ولكن المصلحة العامة تغلبت على الجميع، لذلك عندما أثير الأمر فى نهايات العام الماضى كان الحديث يدور حول شائعات تتصل باحتمال نقل رفات عميد الأدب العربى د.طه حسين وحامل قنديل أم هاشم يحيى حقى حتى وصل الأمر إلى ملكة مصر السابقة فريدة الزوجة الأولى للملك فاروق، وصرحت مصادر فرنسية تدرك مكانة د.طه حسين لدى الفرنسيين قائلة إنهم على استعداد لاستقبال رفاته إذا كانت سوف تتعرض للنقل من مكانها! كما تحدث أ.محمد عبدالقدوس معى شخصيًا عن رفات والده أشهر روائى فى تاريخنا المعاصر وتواترت أحاديث كثيرة حول ذلك الشأن، وكنت أسأل نفسى إذا كان الاقتراح لا بأس منه ولا غبار عليه، فالأهم هو تعريف الخالدين بالدرجة الأولى حتى لا يكون الأمر ضبابيًا ولا العمل دعائيًا.
ثانيًا: إن الأخذ باقتراح إقامة مقبرة للخالدين ولكن دعنا نسميها (مقبرة العظماء) هو أمر يبدأ من الآن تحركًا نحو المستقبل ولا يمكن تكريم كل الراحلين عبر القرون الماضية أو حتى العقود التى مضت على نحو يغير من طبيعة المقابر القديمة ويهز مكانة أصحابها، لأن قدسية الموت تحول دون ذلك كما أن الحضارات والثقافات والديانات كلها تحترم أجساد الموتى وتحفظ لهم كل ألوان التوقير والاحترام وذلك تقليد بارز عرفه المصرى القديم بانى الأهرامات.
ثالثًا: إن الذى دفعنا إلى اقتراح مقبرة العظماء وتبنى إقامتها إنما هم أولئك الذين يتصورون أن الأمر سوف يبدأ غدًا، وأننا سوف نقوم بنقل رفات مئات الراحلين، لذلك قلنا ونقول إن مقابر العظماء يجب أن تكون موزعة على محافظات الجمهورية فى أماكن بعيدة عن السكنى وطرق المواصلات حتى تظل الصورة دائمًا متحضرة وراقية ولا تخضع للعبث واضعين فى الاعتبار مصالح البلاد والعباد، فلا سبيل لنبش الماضى إلا بمقدار، وأتذكر الآن مع غيرى مرة أخرى أن الخلود لله وحده، وأنها مقبرة العظماء إذ قامت لتكريم من أدوا خدمات جليلة لمصر وأصبحت سجلات أعمالهم خالدة وليست شخوصهم الفانية.. فالخلود لله وحده مرة أخرى.