بقلم - مصطفي الفقي
محيرة هى المشكلة السكانية فى مصر، عبر عليها الرؤساء والخبراء وأجمع الكل على أن الانفجار السكانى يمثل أم المشكلات بالنسبة للوطن المصرى، وبُذلت جهود، وقامت مؤسسات، وأنُفقت أموال، وكثرت الكتابات، وتنوعت الدراسات والمشكلة قائمة تمتص عوائد الإنتاج وتطيح بكل فائضٍ يحققه النمو، كما أنها تضرب منذ عقود قضية التنمية فى مختلف القطاعات حتى اشتبكت المدخلات وتباينت المخرجات فى هذه القضية الحيوية، التى تمثل فى ظنى القضية المصرية الأولى لعقود قادمة ما لم نتمكن من كسر الحاجز فى تلك الدائرة الشريرة للزيادة السنوية لسكان مصر، وأزعم هنا أن هناك عددًا من العوامل تقف وراء استبداد المشكلة واستمرارها، وهذه العوامل يمكن إيجازها فى الأبعاد التالية:
أولًا: فى ظنى - وليس كل الظن أثمًا - أن هناك فهمًا مغلوطًا لموقف الأديان من عدد السكان، وأن زيادتها تمثل مصدرًا للفخر يباهى به الأنبياء يوم العرض على الله فى السماء مع أن ما تجمع عليه أمة فى تأكيد مصلحة لها يعلو ويطفو فوق سواه، والمعروف أن الدين الإسلامى قد جعل التفكير فريضة ولم يتردد فى تأكيد أن البشر أعلم بدنياهم وأقدر على فهم مشكلاتهم، فالأديان تتطلع إلى حياة أفضل للإنسان على الأرض وترى أن الروح من أسرار الله، لذلك فإن استدعاءها للحياة لا بد أن يكون أمرًا مقدسًا يحتفى به الأحياء لا أن يكون عبئًا على حياتهم وحرمانًا من عوائد جهدهم، إن الإسلام براء من قضية زيادة السكان، بل هو يدعو إلى ضبط النسل وتنظيم الأسرة وفقًا للحاجة المادية والمعنوية وللأزهر الشريف وغيره من المؤسسات الدينية المختلفة نظرات إيجابية فى هذا الأمر.
ثانيًا: إن الأب المصرى يتوهم أن زيادة عدد أفراد أسرته هو إضافة للقوة العاملة لديه ومكسب سريع يسعد به، وهو لا يدرى أنه يرتكب جرمًا فى حق القادمين والقادمات بغير استعداد أو ترتيب، فهل يفرح الأب وأولاده وبناته تعساء وأسرته ممزقة وإمكاناته مستهلكة دون أن يضع حدًا لتلك المهزلة التى شاعت وانتشرت ونقلتنا إلى خمسة أضعاف عدد السكان خلال قرن واحد، إن الأمر فى ظنى يحتاج إلى وقفة صادقة ونظرة تأمل لوضع حد للمعاناة المصرية باستضافة سنوية جديدة لما يقرب من عدد سكان دولة صغيرة من القادمين والقادمات إلى الحياة بكل مطالبها المتزايدة واحتياجاتها المتراكمة، ولابد أن أسجل هنا أن ما يحدث فى بلدنا هو زيادة مطردة فى الحجم السكانى لا تلاحقها معدلات التنمية من العائد الإنتاجى، وقد يقول قائل لقد سبقتنا دول تجرى فى مضمار التقدم مثل الصين والهند، ومع ذلك لم تتعرض لما تعرضت له مصر من فجوة واضحة بين الدخل القومى والكم، البشرى، وذلك لأن تلك الدول نجحت فى أن تجعل من الكم كيفًا، كما تمكنت من توظيف الأعداد الوافدة سنويًا إلى قوى عاملة لا مجرد أفواه مفتوحة وحاجات متزايدة.
ثالثًا: هناك وهم سائد لدى كثير من المصريين بأن الدور المصرى فى المنطقة ينبع من حجم السكان، بينما الأمر غير ذلك، فقيمة مصر تنبع من ميزاتها الاستراتيجية وقواها الناعمة ومجمل تاريخها المتألق وموقعها الجغرافى الفريد على الناصية الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية فهى تنظر إلى آسيا وأوروبا فى وقت واحد، ولذلك فإننى اختلف مع من يتوهمون أن العرب والأفارقة والمسلمين يستمدون قيمة مصر الحقيقية من حجم سكانها، إن ذلك وهم عفا عليه الزمن وكم من دول صغيرة العدد فى حجم سكانها ومع ذلك فهى معروفة بشدة تأثيرها على جيرانها، إن مستقبل البشرية محكوم بنظرية الكيف وليس بمفهوم الكم فالدولة قليلة العدد قد تتمتع بتوازن بين الموارد والحاجات، بين الانتاج والاستهلاك، بين الأجور وأسعار الخدمات، إن مثل هذه الدولة هى التى تكون ندًا لغيرها وتسمح لقواتها المسلحة بأن تكون درعًا لمواطنيها فى كل مكان، ولقد تباهت مصر الناصرية والساداتية بل وحتى نهاية عصر مبارك بحجم مصر السكانى وعاش المصريون فى ظل الإحساس الدائم بأن ضخامة مصر السكانية هى سبب الريادة الإقليمية!
رابعًا: إن إنجاب الأطفال حق طبيعى للبشر شريطة أن يرتبط ذلك بالإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، وأنا ممن يظنون أن الإنجاب يكاد يكون قرارًا سياسيًا فى ظل المعضلة القائمة بين الموارد والاحتياجات، كما أن الوصول إلى الحجم الأمثل للسكان يقتضى سعة فى الأفق وقدرة على تحريك المواقف بشكل إيجابى يسمح بالتطلع إلى مجتمع الرفاهية بدلًا من تقسيم الأرزاق على عدد هائل من الأعناق، وتكون النتيجة هى تراكم الفقر وتزايد الأعباء على الأسر المصرية كما نراه الآن.
إننى لا أدق ناقوس الخطر لأول مرة، فقد دقه كثير من أساتذة الجغرافيا البشرية وعلماء الاجتماع وأصحاب المدارس الفكرية وثبت للجميع أن التفوق الإنسانى يأتى من العقل الرشيد لا من زيادة المواليد!