بقلم - فيصل مكرم
صقيعُ أوروبَّا هذا الشَّتاء قارسٌ ويصيب من حولها بصقيع مثله.. هي الحروب إذا لم تتوقف في مهدها توسعت لتتناثر شظاياها فتصيب من حولَها بشيء من لهيبها وحُمم نيرانها، والحرب الروسية في أوكرانيا باتت كفوهة بركان يهدد القارة العجوز بفصول قاسية في قادم السنوات، وإذا ما اتسعت رقعةُ الحرب فسوف تهدد استقرار العالم وأمن البشرية، ومثلما هي أوروبا على موعد مع صقيع شتاء هذا العام يعيدها -وأعني هنا دول الاتحاد الأوروبي- إلى عصور التدفئة بالحطب والفحم، فإن كل دول الكوكب ستخضع لإجراءات صارمة وغير مسبوقة تفرضها على مواطنيها ومصانعها ومدنها لترشيد استهلاك الغاز والطاقة الكهربائية والغذاء، ولسياسة الترشيد التي تطال كل مجالات استخدام الطاقة في أوروبا اليوم بدأت دول أخرى في تطبيقها استعدادًا لما هو أسوأ في قادم الحرب الروسية في أوكرانيا، ذلك أن موسكو التي تتعرض لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة من قِبل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لم تستسلم لتلك العقوبات الغربية، واتخذت إجراءات صارمة على تصدير الطاقة والمواد الزراعية والصناعية التي تحتاجُها أوروبا لتجعل للعقوبات الغربية تأثيرًا عكسيًا على دول اليورو التي أصبحت تعاني من تبعاتها أشدَّ المعاناة.
ومما لاشك فيه أنَّ الجيش الروسي يتكبد خسائر كبيرة في صفوفه وآلياته، وجحافله التي اندفعت نحو الأراضي الأوكرانية، حيث نجحت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون في تزويد الجيش الأوكراني بما يحتاجُه من الأسلحة والذخائر والآليات المتطورة وبالخبراء العسكريين والمقاتلين المرتزقة للحؤول دون سقوط العاصمة كييف، وأهم المدن والمقاطعات والأقاليم الأوكرانية بيد الجيش الروسي، ورغم أن الجيش الروسي مُني بهزائم كارثية في عدة مناطق شرق أوكرانيا آخرها في مقاطعة ليمان إلا أن الروس واثقون من تحقيق أهدافهم مهما كان الثمن وهو ما دفع بالرئيس الشيشاني الذي شارك في قيادة جيشه في الحرب جنبًا إلى جنب مع الجيش الروسي إلى مطالبة الرئيس بوتين باستخدام سلاح نووي تكتيكي ردًا على هزائم جيشه شرق أوكرانيا، ومع ذلك لم تتغير المعادلة عسكريًا، والتلويح بالسلاح النووي يندرج ضمن المعادلة الروسيَّة في تغيير مسار الحرب التي حذَّر منها الرئيس الأمريكي جو بايدن في وقت سابق ويبدو أنه سيكتفي بذلك التحذير. الرئيس بوتين تمكن أخيرًا من ضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى روسيا، وأجرى استفتاءً بين سكانها من أصل روسي لم يعترف بنتائجه أحد حتى الآن لكنه، باتَ يتحدثُ عن الأراضي الروسية وأمنها من حدود تلك الأقاليم، إضافةً إلى جزر القرم التي تمَّ ضمُها قبل سنوات بحجة أن موسكو استعادتها بعد أن أهدتها لجمهورية أوكرانيا إبان حقبة الاتحاد السوفييتي، وبالرغم من محاولة الرئيس بوتين تغيير معادلة الحرب في أوكرانيا باستدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط إلا أنه أعلن استعداده لوقف الحرب بعد ضم أقاليم شرق أوكرانيا الأربعة إلى روسيا وتاركًا ما تبقى من أوكرانيا لحلف الناتو، وهنا لابد من الإشارة إلى أن بايدن وحلفاءَه الغربيين لم ينجحوا حتى الآن في إسقاط بوتين بحرب أوكرانيا، فيما أفشل بوتين مخطط واشنطن في جعل هزيمة موسكو درسًا للصين حيث بات صوت بكين مرتفعًا لجهة المطالبة بنظام عالمي جديد لا يخضع للقطب الأوحد.
والحاصل أنَّ الدول الأوروبية تشعر بالقلق كثيرًا من استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا التي تستنزف الكثير من مواردها الاقتصادية ومخزونها العسكري وتخشى من عمليات تسرُّب الأسلحة من أوكرانيا عن طريق عصابات دولية إلى مناطق متفرقة من العالم وجماعات إرهابية تشكل تهديدًا لأمنها، كما أن استمرار ضغط واشنطن لفرض مزيدٍ من العقوبات على موسكو سيُؤدِّي إلى عواقبَ وخيمةٍ على أمن أوروبا والعالم، وسينتج دولًا وكيانات بديلة في أرجاء العالم تحد من نفوذ الغرب، ذلك أن الاقتصاد العالمي مهدد بالركود خلال عامَين، ودول اليورو تعاني من ارتفاع نسبة البطالة وغلاء المعيشة وشح مصادر الطاقة ما قد يزعزع أمنها الداخلي، حيث بلغت نسبة التضخم أكثر من 10 في المئة خلال النصف الأول من العام الجاري، الاقتصاد البريطاني في حالة تدهور غير مسبوق، وفرنسا تفقد نفوذها وسيطرتها على القارة السمراء ومواردها المهمة لتحل الصين مكانها، وألمانيا من أكثر الدول تضررًا من الحرب والعقوبات على موسكو، كما أنَّ العالم اليوم مهدد أكثر من أي وقت مضى بتفشِّي المجاعات والأوبئة والحروب ونقص الموارد وتبعات التغيُّر المُناخي.. هذه هي الحرب التي لن يسلم أحد من شظايا نيرانها، ولا يتوقع أحد كيف ستنتهي، وبأي حال يكون العالم بعدها.