عبد الرحمن الراشد
قال: «المسألة خناقة فلوس.. لا علاقة للأرض أو القضية أو السياسة بشيء»! هذا ما لخصه أحد المختصين في الشأن الفلسطيني حول اشتعال النار في بيت محمود عباس السياسي، أعني حكومة السلطة الفلسطينية.
هذه هي الاستقالة الثالثة، أو العاشرة، لرئيس الوزراء الدكتور سلام فياض، وجاءت في أهم وقت منذ 12 عاما، فقد توقف الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ووضعت على الرف إلى الشهر الماضي عندما زار الرئيس الأميركي باراك أوباما الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل، وألقى في القدس كلمة مباشرة توحي بمبادرة سلام جديدة.
عرف فياض بأنه المحاسب المالي النزيه، والأمين على أموال المانحين الدوليين، الذين ينفقون على معظم خدمات ومرتبات الفلسطينيين. وجاء ليصحح سمعة حركة فتح، الفريق الأكبر في القوى الفلسطينية، التي اشتهرت في السابق بسوء إدارتها للأموال، وكان الفساد سبب تصويت الأغلبية ضدها في الانتخابات البرلمانية 2006 لصالح حماس حينها.
ولأن معظم الأموال تأتي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فإنهم اشترطوا أن يكون وزير المالية شخصية يثقون في كفاءتها ونزاهتها، وهاتان خصلتان تميز بهما فياض. وقد سببتا له دوما مشاكل مع قياديي السلطة الفلسطينية، فقد اعتادوا على تسهيلات الراحل الرئيس ياسر عرفات، واستخدامه للمال في خدمة السياسة.
وخصوم فياض، ربما ليس من باب الفساد، يريدون إبعاده، لكنهم يعتقدون أن المال من وسائل العمل السياسي في كل مكان في العالم، ومن دون أموال سياسية يخشون من تغلغل حماس، فهي تستعمل أموال مانحيها، الإيرانيين والعرب، في سبيل الكسب السياسي. وهناك فريق يتمسك بفياض خشية عودة الفساد إن رحل، ويرون أنه، كرئيس وزراء، الضامن الأكيد لأموال الفلسطينيين الذين بالكاد يعيشون على الكفاف، بسبب الحصار الإسرائيلي عليهم.
لكن معركة فياض ليست فقط مع الصقور الجائعة في رام الله، بل مع حماس والإسرائيليين لسبب واحد.. فياض هو من أعطى الحكومة الفلسطينية حقا سمعة حسنة.
بالنسبة لإسرائيل فقد شنت حربا شعواء عليه لأنه وراء إقامة ودعم مؤسسات فلسطينية صغيرة كثيرة عززت صمود الفلسطينيين، وبنت أملا لهم باقتصاد محلي لا البحث عن وسيلة للهجرة أو الاعتماد على الأعمال القذرة، مثل بناء المستوطنات على أرضهم المنهوبة، وما يتعرضون له من إذلال.
مشروع فياض، وهو خبير اقتصادي، بناء مؤسسات حقيقية للشعب الفلسطيني.
أما حماس فهي تعرف أن الوجه الحسن للسلطة الفلسطينية، مثل فياض، سيتسبب في خسارتها لأي انتخابات مقبلة، لأنها منذ تسلمها السلطة لا حاربت، ولا سالمت، ولا قدمت أي إضافة لغزة، ولهذا هي تماطل وتماطل.
ماذا عن الرئيس نفسه، عباس؟ تعرفونه رجلا هادئا، وعاقلا، يكره المعارك والمؤامرات، وكل هذه الصفات لا تنسجم مع طبيعة المناخ السياسي بما فيه من تجاذبات وعراك سياسي، لكن أيضا عيوبه هي ميزته، فقد جعلته نموذجا مشابها لفياض، ضمن للسلطة في الضفة استقرارها واستمرارها في وجه مؤامرات إسرائيل وإيران اللتين تسعيان دائما إما للهيمنة أو تخريب الوضع الفلسطيني لأغراضهما. وكثيرون لاحظوا المعركة الشرسة الأخيرة داخل حماس، رغم أنها نفتها، وتعكس صراعا بين ما يسمى بالخيار الإيراني، مثل الزهار، وخالد مشعل، والخيار القطري - الغربي، وعسى أن تخسر إيران ليس في إدارة شأن حماس خارجيا فقط، بل داخليا أيضا، مما يعزز فرصة المصالحة وعودة جميع الفلسطينيين تحت قيادة واحدة.
الآن استقال فياض، أو بالأصح دفع للاستقالة، من قبل الصقور الجائعة، بمبررات سياسية كلنا نعرف أنها واهية، وفي النهاية ستنقض الصقور على الرئيس عباس، الذي طالما كان رئيس وزرائه فياض يمثل صمام الأمان له، والمشجب الذي يعلق عليه مشاكله.
نقلاً عن جريدة " الشرق الأوسط " .