عبدالرحمن الراشد
نعرف أنه لا توجد مقدسات في العمل السياسي بما في ذلك الدساتير، مهما حلف عليها أغلظ الأيمان. لطالما كتبت وأعيدت كتابتها، وحرقت، وأعيد حرقها. المهم أن نكون واقعيين، الدساتير والأنظمة، والعمل السياسي والمدني برمته، إنتاج بشري يعكس ثقافة المجتمع وتجربته. دساتير العرب القديمة في النصف الأول من القرن العشرين كانت تعكس ثقافة أفضل، ربما لأنها كانت واقعة تحت تأثير الاستعمار الذي كان أكثر تطورا في مفاهيمه للدولة الحديثة. وجاءت الدساتير اللاحقة لها، أيضا أكثر تنورا من مما تلاها، لأن النخب التي كانت تحكم قلدت المستعمر، كما كان الحال في تونس عندما صاغ الحبيب بورقيبة دستور الدولة المدنية الحديثة، في عام 1959. أما دستور مصر، قبل بورقيبة في تونس، فيعكس حال العسكر بعد توليهم إدارة البلاد. وفي عام 1971 أصبح دستور مصر أكثر موضوعية في زمن الرئيس أنور السادات، وكان أكثر انسجاما مع طبيعة المجتمع المصري، لولا أن الرئيس حسني مبارك لاحقا أضاف إليه مادة تعينه على التحكم في خلافته.
الدستور التونسي الجديد وصف بأنه أفضل الدساتير المدنية في طول العالم العربي وعرضه، وقد حظي بموافقة الإسلاميين والليبراليين، وحقق نتيجة تصويت باهرة، مائتان أيدوه، و12 فقط عارضوه! أي حظي بشبه إجماع، رغم ليبراليته ووضوح تفسيره للحقوق المدنية. أما في مصر فإن الدستور تعرض للانتقاد بدعوى أنه ليس «شريعيا» مع أنه كان إسلاميا أكثر بكثير من التونسي. فالإسلام فيه دين الدولة والشريعة مصدر لها، أما التونسي فرفض إدراج الشريعة مصدرا للتشريع، وبعكس المصري، فالدستور التونسي يرفض صراحة استخدام الدين، وإقحامه في شؤون الدولة والحكم. ويحظر التونسي أيضا الاستغلال السياسي للمساجد، ويجرم دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف. كل هذا جرى بموافقة غالبية حزب النهضة الإسلامي، ومعظم النواب الإسلاميين الآخرين من التوانسة. في مصر، كتبت وراجعت الدستور لجنة الخمسين التي أبقت عليه نظاما يراعي الثقافة المصرية المحافظة، وولد دستور يشابه كثيرا دستور «الإخوان»، ومع هذا هاجموه وكفروه.
وكما بدأت، أذكر ثانية، الدساتير ليست إلا مرآة للزمن والمجتمع والثقافة، تتغير بتغير الظروف. ومن يدري من يمسك بالشارع التونسي غدا، قد يعيد كتابته، كما فعل زين العابدين بن علي، فهو في عشر سنوات قفز من ملحق عسكري لدى بولندا، فسفير، إلى وزير، وبعدها سمع التونسيون صوته في المذياع يعلن نفسه رئيسا. الإسلاميون ساندوه لثلاث سنوات وهللوا له، ثم اختلفوا معه في أزمة الخليج بعد تأييدهم احتلال صدام الكويت.
وكما قال أبو حنيفة عن التابعين: «هم رجال ونحن رجال»، المشرعون معظمهم رجال، وهذا حال الدساتير كلها، فالثقافة العامة أهم من الحبر الذي تكتب به دساتير لشعوب غالبيتها لا تفقه معانيها ومع هذا تصوت عليها، وزيادة على شيوع الجهل تفتقد مؤسسات دولة مستقلة تستطيع أن تحاسب من يتجاوز على النظام الذي صوت عليه الناس واختاروه. فتركيا، نسبيا، تعد بلدا شعبها أفضل ثقافة، ومؤسساتها أثرى تجربة، ومع هذا نرى اليوم رئيس الوزراء يفصل الشرطة التي تحقق في تهم الفساد في حكومته، ويبعد القضاة، ويسجن الإعلاميين، ويريد تعديل الدستور بحيث يسمح له، كسلطة تنفيذية، بأن يشرف على القضاء الذي يفترض أنه سلطة مستقلة تماما في النظام الديمقراطي!
مشوار بناء الدول طويل ومعقد، وهو أولا نتيجة ثقافية وليس العكس. فقد كانت في القرن العشرين برلمانات في السودان والعراق ومصر وتونس والجزائر واليمن الجنوبي، وغيبت من دون احتجاجات شعبية. ألغيت مرة باسم محاربة أذناب الاستعمار، ومرة باسم محاربة العدو الصهيوني، وانتهت إلى قبة توقع على قرارات الرئيس بلا جدل. سوريا الدموية اليوم، تخيلوا أنها من أقدم الدول العربية التي بنت برلمانها، مجلس الشعب، عام 1932. فكيف انتكست حياتها السياسية وصارت من أكثر الدول ديكتاتورية في أقل من خمسين سنة مضت؟ إنها قصة ضمور الثقافة المدنية.
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"