بقلم : جمعة بوكليب
قد لا يكون مهماً لكثيرين، ممن لم يُمتحنوا بالعيش في بلاد الغربة لأعوام طويلة، فهم واستيعاب طبيعة المشاعر المعقّدة، التي تستحوذ على قلب وعقل مغترب يزور مدينة شهدتْ مسقط رأسه، وكان يظنّ، في بلد غربته، أنّه قد لا يراها ثانية مطلقاً.
تعقّد المشاعر والأحاسيس المقصود، ربما يكون ناشئاً عن طبيعة العلاقة المعقّدة أصلاً بينهما. ذلك أن العلاقة بين الإنسان والمدن عموماً، وبمدينة مسقط الرأس خصوصاً، ليست بالوضوح الكافي أو حتى المتوقع كما يبدو لنا. فالمدن، مثل البشر، لا تتشابه وإن تعددت أوجه التشابه بينها. وتظلُّ لكل مدينة ذاتيتها وخصوصيتها، التي اكتسبتها عبر العصور. بعض المدن انبثق فجأة في سنوات مضت، وصارت تحظى بشهرة عالمية. وبعضها الآخر ضارب في التاريخ، إلا أنّها لم تعد تثير الاهتمام.
المنفيون والغرباءُ، ومن على شاكلتهم، ربما تعنيهم المسألة أكثر من غيرهم، لأنّهم يعيشون في مدن غريبة، يتعثرون في ألسنتها، وبنيّة إقامة مؤقتة، ومدن أخرى منحتهم الحياة وحرمتهم منها، بأن ضيّقت عمداً عليهم سبل العيش بها فتركوها، على أمل العودة إليها في مرحلة عمرية لاحقة.
قد يصدف أن تكون واحداً من أولئك الذين تركوا مدنهم وأوطانهم شباباً وعادوا إليها كهولاً أو يأملون في ذلك، ربما برغبة أخيرة، ولمرّة أخيرة، لتجميع ما تركوا في أرجائها مبعثراً من شظايا ذكريات بعيدة، بأمل أن يتوكأوا عليها فيما تبقى لهم من أيام في الدنيا.
وقد يصدف أن تكون واحداً من آلاف الليبيين، ممن تبعثروا مهاجرين في أصقاع الأرض منذ أعوام بعيدة، وأتيحت لهم فرصة العودة إلى مسقط الرأس. وفي الحالتين، تكتنف تلك العودة أحاسيس متناقضة، تبدأ من نقطة ولا تعود إليها. أسوأ تلك الأحاسيس وأكثرها إيلاماً، حين يكتشف العائدون لدى العودة أنّهم أضحوا غرباء، في عيون أهلهم.
وأن أهلهم يتوقعون رحيلهم، وعودتهم إلى من حيث جاءوا، ويعاملونهم على ذلك الأساس، وبذلك الاعتقاد. وهذا يفضي بهم إلى استبعادهم من دائرة الاهتمام اليومي وتهميشهم، على أساس أنّهم ضيوفٌ لأيام قليلة، لا يتوجب إثقالهم بمشكلات لا علاقة لهم بها ولا يفهمونها. المفارقة أنّهم محقّون في ذلك الاعتقاد.
إذ من أين للعائد الغريب أن يجد الوقت والفرص لتجسير هوّة زمنية كبيرة ليس في الإمكان تجسيرها؟ ومن أين لأهله وأحبابه أن يتفهموا طبيعة ما حدث في عقله ووجدانه من تغييرات أحدثتها الغربة على مر السنين؟ ربما لذلك السبب، يظل الرحيل والعودة إلى من حيث جاءوا أفضل الخيارات للعائدين ولأهلهم. يعودون هم إلى مواصلة حيواتهم في منافيهم المختارة، ويتركون لأهلهم مواصلة حيواتهم في مدينتهم. اللافت للاهتمام أن ذلك الخيار رغم كل مزاياه يترك مذاقاً حنظلياً في قلوب الفريقين.
الفرق بين رؤية الفريقين، أن صورة الوطن في أذهان العائدين ظلت مجمّدة في النقطة الزمنية التي غادروه فيها إلى العيش في بلدان أخرى. تلك الصورة أو الصور لم يعد لها وجود واقعياً وفعلياً. بل انمحت بفعل حركة الواقع وتغيّراته. حركة الواقع وتبدلاته وتغيراته لا تعرف التوقف واقعياً، لكنها تتوقف، شعورياً وروحياً وزمنياً، في عقول المغتربين. وللسبب ذاته، يصابون بالإحباط لأن صورة الوطن الذي تركوه انمحت، ومحلها يجدون واقعاً آخر لا يعرفونه ولا يستوعبونه ولا تربطهم به وشائج وصلات. وإجادتهم لأبجدية لغته لا تعني قدرتهم على فهم آليات اللغة الجديدة التي حلّت محل التي عرفوا، وما جَدَّ عليها من تعقيدات وشفرات وتلوّنات وظلال ومعانٍ. ولا يترك كل ذلك لهم سوى خيار واحد، يشبه إلى حد بعيد وضعية ما أطلق عليه الفقهاء قديماً مصطلح منزلة بين منزلتين. فلا يحظون بمنزلة المؤمن في الآخرة ولا بمنزلة الكافر. أي إنهم معلقون بين أوطان انمحت واقعياً وبقيت في أذهانهم مثل فردوس مفقود، وأوطان متبناة، مثل فردوس موعود، لم تعد تقبلهم، ولم يعودوا يطيقون العيش بها، بسبب تغير الظروف. أي إنهم يتقلبون في نيران محنتين.
الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري عاش رهين محبسين. ويعيش الغرباء والمنفيون رهائن محنتين/ غربتين.