توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رَهائنُ غربتين

  مصر اليوم -

رَهائنُ غربتين

بقلم : جمعة بوكليب

 

قد لا يكون مهماً لكثيرين، ممن لم يُمتحنوا بالعيش في بلاد الغربة لأعوام طويلة، فهم واستيعاب طبيعة المشاعر المعقّدة، التي تستحوذ على قلب وعقل مغترب يزور مدينة شهدتْ مسقط رأسه، وكان يظنّ، في بلد غربته، أنّه قد لا يراها ثانية مطلقاً.

تعقّد المشاعر والأحاسيس المقصود، ربما يكون ناشئاً عن طبيعة العلاقة المعقّدة أصلاً بينهما. ذلك أن العلاقة بين الإنسان والمدن عموماً، وبمدينة مسقط الرأس خصوصاً، ليست بالوضوح الكافي أو حتى المتوقع كما يبدو لنا. فالمدن، مثل البشر، لا تتشابه وإن تعددت أوجه التشابه بينها. وتظلُّ لكل مدينة ذاتيتها وخصوصيتها، التي اكتسبتها عبر العصور. بعض المدن انبثق فجأة في سنوات مضت، وصارت تحظى بشهرة عالمية. وبعضها الآخر ضارب في التاريخ، إلا أنّها لم تعد تثير الاهتمام.

المنفيون والغرباءُ، ومن على شاكلتهم، ربما تعنيهم المسألة أكثر من غيرهم، لأنّهم يعيشون في مدن غريبة، يتعثرون في ألسنتها، وبنيّة إقامة مؤقتة، ومدن أخرى منحتهم الحياة وحرمتهم منها، بأن ضيّقت عمداً عليهم سبل العيش بها فتركوها، على أمل العودة إليها في مرحلة عمرية لاحقة.

قد يصدف أن تكون واحداً من أولئك الذين تركوا مدنهم وأوطانهم شباباً وعادوا إليها كهولاً أو يأملون في ذلك، ربما برغبة أخيرة، ولمرّة أخيرة، لتجميع ما تركوا في أرجائها مبعثراً من شظايا ذكريات بعيدة، بأمل أن يتوكأوا عليها فيما تبقى لهم من أيام في الدنيا.

وقد يصدف أن تكون واحداً من آلاف الليبيين، ممن تبعثروا مهاجرين في أصقاع الأرض منذ أعوام بعيدة، وأتيحت لهم فرصة العودة إلى مسقط الرأس. وفي الحالتين، تكتنف تلك العودة أحاسيس متناقضة، تبدأ من نقطة ولا تعود إليها. أسوأ تلك الأحاسيس وأكثرها إيلاماً، حين يكتشف العائدون لدى العودة أنّهم أضحوا غرباء، في عيون أهلهم.

وأن أهلهم يتوقعون رحيلهم، وعودتهم إلى من حيث جاءوا، ويعاملونهم على ذلك الأساس، وبذلك الاعتقاد. وهذا يفضي بهم إلى استبعادهم من دائرة الاهتمام اليومي وتهميشهم، على أساس أنّهم ضيوفٌ لأيام قليلة، لا يتوجب إثقالهم بمشكلات لا علاقة لهم بها ولا يفهمونها. المفارقة أنّهم محقّون في ذلك الاعتقاد.

إذ من أين للعائد الغريب أن يجد الوقت والفرص لتجسير هوّة زمنية كبيرة ليس في الإمكان تجسيرها؟ ومن أين لأهله وأحبابه أن يتفهموا طبيعة ما حدث في عقله ووجدانه من تغييرات أحدثتها الغربة على مر السنين؟ ربما لذلك السبب، يظل الرحيل والعودة إلى من حيث جاءوا أفضل الخيارات للعائدين ولأهلهم. يعودون هم إلى مواصلة حيواتهم في منافيهم المختارة، ويتركون لأهلهم مواصلة حيواتهم في مدينتهم. اللافت للاهتمام أن ذلك الخيار رغم كل مزاياه يترك مذاقاً حنظلياً في قلوب الفريقين.

الفرق بين رؤية الفريقين، أن صورة الوطن في أذهان العائدين ظلت مجمّدة في النقطة الزمنية التي غادروه فيها إلى العيش في بلدان أخرى. تلك الصورة أو الصور لم يعد لها وجود واقعياً وفعلياً. بل انمحت بفعل حركة الواقع وتغيّراته. حركة الواقع وتبدلاته وتغيراته لا تعرف التوقف واقعياً، لكنها تتوقف، شعورياً وروحياً وزمنياً، في عقول المغتربين. وللسبب ذاته، يصابون بالإحباط لأن صورة الوطن الذي تركوه انمحت، ومحلها يجدون واقعاً آخر لا يعرفونه ولا يستوعبونه ولا تربطهم به وشائج وصلات. وإجادتهم لأبجدية لغته لا تعني قدرتهم على فهم آليات اللغة الجديدة التي حلّت محل التي عرفوا، وما جَدَّ عليها من تعقيدات وشفرات وتلوّنات وظلال ومعانٍ. ولا يترك كل ذلك لهم سوى خيار واحد، يشبه إلى حد بعيد وضعية ما أطلق عليه الفقهاء قديماً مصطلح منزلة بين منزلتين. فلا يحظون بمنزلة المؤمن في الآخرة ولا بمنزلة الكافر. أي إنهم معلقون بين أوطان انمحت واقعياً وبقيت في أذهانهم مثل فردوس مفقود، وأوطان متبناة، مثل فردوس موعود، لم تعد تقبلهم، ولم يعودوا يطيقون العيش بها، بسبب تغير الظروف. أي إنهم يتقلبون في نيران محنتين.

الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري عاش رهين محبسين. ويعيش الغرباء والمنفيون رهائن محنتين/ غربتين.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رَهائنُ غربتين رَهائنُ غربتين



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon