بقلم : جمعة بوكليب
القولُ بوجود أزمة ليبية قولٌ يراد به، في رأيي، لفلفةَ الأمور، كمن يحاول حجبَ عين الشمس بغربال. وفي الواقع المعيش هناك أكثر من أزمة حادة؛ أزمة الدستور، وأزمة الانتخابات، وأزمة صراعات الجماعات المسلحة، وأزمة انعدام السيولة النقدية في المصارف، وأزمة نهب المال العام بالمليارات، وأزمة حكومتين. وحالياً، أزمة المصرف المركزي.. وهي أزمات وضعَت المصرف في مهبّ ريح عاصفة. نحن، واقعياً وفعلياً، نتحدث عن واقع تتعدد فيه الأزمات، وتصعب فيه الحياة، وتتدهور مستويات المعيشة، في بلد لا تشمله قائمة البلدان الفقيرة. الأزمة المصرفية الأخيرة، ممثلة في الصراع بين حكومة طرابلس ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، قد تكون الأسوأ من بين الأزمات كلها حتى الآن. كونها تتعلق بأساسيات الحياة لـ6 ملايين ليبي وليبية. ولمن لا يعلم، فإن المؤسسات المالية والمصرفية في ليبيا حالياً مجمّدة دولياً، بعد رفض المؤسسات المالية والمصرفية الدولية، التعامل معها إلى حين حلّ مشكلة الصراع على من يقود مصرف ليبيا المركزي. المحافظ الحالي، الصديق عمر الكبير، يصرُّ على صدور قرار بتنحيته من مجلسي النواب والأعلى للاختصاص، ولا يعترف بالقرار الصادر عن المجلس الرئاسي بتنحيته لعدم الاختصاص. وهو، كما يرى كثيرون، المسؤول عن الوضع السيئ الذي آلت إليه العُملة الليبية من سوء حال أمام العملات الأجنبية، كونه يتولى إدارة المصرف منذ عام 2012. هذه الأيام، نتيجة الأزمة الحالية، بلغت قيمة الدولار الأميركي مقابل الدينار الليبي 7.66 د.ل. المحافظ فرّ خارج البلاد، وأخذ معه كل الشفرات السرّية الخاصة بالتعامل المصرفي دولياً. الإدارة الحالية للمصرف، مفروضة بالقوة من طرف حكومة طرابلس، فشلت حتى الآن في إعادة ربط الجسور مع المؤسسات المصرفية والمالية الدولية. وهذا يعني أن الاعتمادات المصرفية بملايين الدولارات، لصالح القطاع الحكومي أو الخاص، لدفع فواتير شراء السلع والبضائع والدواء... إلخ المستوردة، والمحوّلة للخارج، مجمّدة دولياً. في لقاء أجرته مؤخراً قناة «الوسط» الليبية، مع المحافظ، قال إنَّ أزمة المصرف، ما لم تُحلّ على وجه السرعة، فإنَّ الوضع في البلاد سيؤول إلى مثل ما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي. أي النفط مقابل الغذاء. ووصفه بأنه أسوأ سيناريو. المحافظ أيضاً تساءل متعجّباً عن الأسباب التي منعت المواطنين من الخروج وحماية المصرف، لدى محاولة اقتحامه والاستحواذ عليه. السؤال غريب، كونه صادراً عن رجل يعرف أنَّ كلَّ الأزمات السابقة مرَّت أمام عينيه، ويتوقع من الليبيين حمايته. سؤاله ذاك لا يستحق علامة استفهام، على رأي الشاعرة الإنجليزية آن كارسون. المحافظ، لحسن حظه، في وضعية سياسية أفضل من رئيس حكومة طرابلس، كونه مدعوماً برئيسي مجلسي النواب والأعلى، والمشير خليفة حفتر، ورئيس حكومة بنغازي، والحكومتين الأميركية والبريطانية. هذا الدعم قد لا يضمن خروجه من الحرب الدائرة منتصراً. مندوبو البرلمان والمجلس الأعلى والمجلس الرئاسي في مفاوضات منذ أيام، برعاية بعثة الأمم المتحدة، لاختيار بديل. الصحافي الاستقصائي الليبي خليل الحاسي، في بداية الأسبوع المنصرم، أعلن، من خلال برنامجه التلفزيوني في قناة «الوسط»، عن قيام رئيس الإدارة المعيّنة بالقوة من حكومة طرابلس بإدارة المصرف، بتحويل مبلغ 40 مليار دينار ليبي إلى خزينة وزارة المالية بحكومة طرابلس. المبلغ المذكور، استناداً إلى الصحافي، هو قيمة الرسوم الضرائبية التي وضعها محافظ المصرف بالاتفاق مع رئيس البرلمان على بيع الدولار للمواطنين. الزيادة في الرسوم كانت بنسبة 27 في المائة، ورفعت من سعر الدولار في المصرف من 4.85 د.ل إلى 6.15 د.ل. المدير المكلف إدارة المصرف طالب المدعي العام رسمياً باعتقال الصحافي والتحقيق معه على ادعائه غير الصحيح، وتعهّد بالتعاون في التحقيق. المصارف الليبية تعاني منذ سنوات من عجز في السيولة النقدية. وطوابير المواطنين أمام أبوابها مدعاة للخجل، في انتظار حصولهم على مرتباتهم ولم يقم المحافظ الصديق الكبير بحلّ الأزمة، بل استناداً إلى محللين وخبراء ماليين واقتصاديين ليبيين، استثمرها لصالحه، واستمرار بقائه في المنصب. المفارقة المضحكة المبكية في آن معاً، أن السيولة النقدية تتوفر بالمليارات، في خزائن تجار سوق الذهب والعملة، المعروفة باسم سوق المشير، وهو اسم قديم في المدينة القديمة بطرابلس الواقعة خلف المصرف المركزي.
ما يُخطط له وراء الكواليس ليلاً، ويتسرب بعضه خارجها نهاراً، لا يسرّ مطلقاً، ويشير إلى أن البلاد تركض وثباً نحو حرب أخرى. التجربة الليبية، بعد انتفاضة فبراير (شباط) 2011، أثبتت فشل الحروب في حلّ أي أزمة في الماضي، بل زادت الأمور سوءاً وتعقيداً، وولدت أزمات أخرى.