توقيت القاهرة المحلي 10:49:55 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا!

  مصر اليوم -

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا

بقلم:تركي الدخيل

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الْأَمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

قبلَ أن أختارَ بيتًا من الشّعر لأكتبَ عنه، كانَ البيتُ يخطرُ فِي ذهنِي مرةً، ثم يُبعدُه تزاحمُ غيرِه منَ الأمورِ فِي الذّهنِ، وربَّما يقعُ البيتُ من نفسِي موقعاً يجعلُه يتقافزُ مراتٍ؛ مرةً إلى داخلِ الذّهنِ، وأخرَى إلى خَارجِه. لكنَّ هذَا البيتَ استقرَّ بِمُجرّدِ مطالعتِه سريعاً.

ولأنَّ قدرَ مثلِ هذَا البيتِ الاستقرارُ، كانَ أوَّلَ ما قرأتُ فيه، قولُ شيخِ العَربية، أبِي الفتحِ عثمانَ بنِ جنّي، في «الفسرِ الكبِيرِ في شرحِ ديوانِ المتنبّي»، إذْ قالَ تعليقاً علَى البَيتِ: «كَذَا واللهِ يَشْعُرُ النَّاسُ، وإلَّا فَلْيَخْرُسُوا»!

لمْ يكنْ ابنُ جنّي، رَحمهُ اللهُ، يجامِلُ في إعلانِ إعجابِه الكبيرِ، بِشعرِ أبِي الطّيب المتنبّي، ومقولتُه هذهِ تأتِي ضمنَ صدقِه في بيانِ الإعجَابِ.

هناكَ مَنْ روَى البيتَ بِهمزِ «السُّؤَّال»، واختارَ ابنُ جني وغيرُه روايتَه تخفيفًا بحذفِ الهمزةِ (السُّوَّال): وهو جمعُ السَّائلِ (الطَّالب الفقير).

سَبَكَ: الذَّهبَ وَالْفِضَّةَ وَنَحْوَهما مِنَ الذَّائِبِ يسبُكهُ ويسبِكُه سَبْكًا وسَبَّكه: ذَوَّبه وَأَفْرَغَهُ فِي قالبٍ. وسَبِيكَة: قِطْعة مُذابة من الذَّهبِ أو الفضةِ في قالبٍ محدَّدٍ بحسبِ الوزنِ، والجمعُ: سَبائك.

الأموالُ: جمعُ مالٍ، وهوَ مَا ملكتَه من جميعِ الأشياءِ. والمالُ فِي الأصلِ الذَّهبُ والفضةُ، ثمَّ أُطلقَ على كلّ مَا يُملَك ولَهُ قيمةٌ، وكَانتِ العَربُ تُسمّي الإبلَ مالًا لقيمتِهَا عندَهم.

واختَارَ الشَّاعِرُ الحَديثَ عَنِ السَّبكِ، وَهوَ سَبكُ الذَّهبِ والفِضَّةِ، لأنَّهُ الأَصْلُ فِي المَالِ كَمَا سَبَقَ.

وهُنَاكَ مَنْ يَرَى أنَّ المالَ سُمِّيَ مالًا لأنَّ النَّاسَ تَميلُ إليهِ. وإذَا كَانَ الأمرُ كَذلكَ، إذن فَالأَحرَى أنْ يُسَمَّى المُمِيلَ.

خَزن: خَزَنَ الشَّيءَ يَخْزُنُه خَزْنًا، واخْتَزَنَه: أَحْرَزه وَجَعَلَهُ فِي خِزانةٍ وَاخْتَزَنَهُ لِنَفْسِهِ. والخِزَانةُ: اسْمُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ». والخِزَانَةُ: عَمَلُ الخَازِن. والمَخْزَن، بِفَتْحِ الزَّايِ: مَا يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءُ. والخِزانَةُ: وَاحِدَةُ الخَزائن. (لسان العرب).

وهُوَ اسمُ مَكانٍ. وخُزَّانْ: جمع خَازِن، وهو القَائمُ علَى حِراسَةِ الخِزَانَة.

والمَعنَى: أنَّ الشَّاعِرَ يُخاطِبُ مَمْدُوحَهُ، فَيقولُ لَه: أنتَ الّذِي سَبكَ الأَموَالَ بِجمعِهَا وتَنمِيتِهَا ومُضاعَفتِهَا، وذلكَ مَكرمةٌ منكَ. و«المَكْرُمَة»: فِعلُ الكَرَمِ، وهي مفردُ المكَارِم، فَسبكَ المَمدوحُ الأَموالَ من كَرمِه فَهوَ كَمَنْ سَبكَ الأَموالَ لِيُكرمَ بهَا غيرَه، ويُثبتُ ذلكَ مَا جَاءَ بعدَ ذَلكَ.

فِي عَجزِ البَيتِ يقولُ المُتَنبّي:

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

أيْ: بعدَ أنْ وفَّرتَ الأموالَ وصَنعتَها وضَاعفتَها، اخترتَ مَنْ يقومُ علَى حراستِهَا ومراقبتِهَا، وهمْ ذوو الحَاجاتِ وأهلُ السُّؤالِ مِنَ الفقراءِ، والمُرادُ أنَّكَ وزَّعتَها عَليهمْ من بَالغِ الكَرمِ والسَّخَاءِ.

إنَّ أهلَ الثرواتِ والأموالِ يُخزّنونَ أموالَهم للمحافظَةِ عليهَا، وضَمانِ ألَّا يمسَّها أحدٌ، وألَّا يصيبَها نقصانٌ ولا ضَررٌ، لكنَّ ممدوحَ المُتنبّي الذِي إنَّمَا سَبكَ الأموالَ واصطنعَهَا لأجلِ كرمِه، يختارُ حُراساً لأَموالِه، منَ الفقراءِ الذينَ تضطرُهم الحَاجةُ لِسؤالِ العَطاءِ، وكَأنَّ الممدوحَ يؤمنُ بأنَّ بقاءَ المَالِ في العَطاءِ، والتَّعبير عَنْ كرمِ المَمدوحِ بهذَا المَعنَى مِنْ بَلاغةِ أبِي الطَّيبِ المُتنبّي.

لَا غَرابةَ فِي تَعليقِ ابنِ جِنّي، علَى قولِ المُتنبّي:

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الَأمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

بِالفِعلِ... كَذَا فَليكنِ الشّعرُ، وإلَّا فَلَا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا



GMT 04:32 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

ما قال... لا ما يقال

GMT 04:30 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

وزن تأريخ الأردن في التوجيهي 4 علامات.. أيعقل هذا ؟!

GMT 04:27 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

لكنّها الطائفيّة... أليس كذلك؟

GMT 04:24 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

العلويون جزء من التنوّع الثقافي السوري

GMT 04:22 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والصراع على الإسلام

GMT 04:19 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

عن الحيادِ والموضوعيةِ والأوطان

GMT 04:16 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

أين يُباع الأمل؟

GMT 04:11 2024 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

الجميع مستعد للحوار

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 08:32 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

ايجابيات وسلبيات استخدام ورق الجدران في الحمامات

GMT 08:50 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

المجوهرات العصرية زيّنت إطلالات الملكة رانيا في 2024

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 09:32 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

إطلالات للمحجبات تناسب السفر

GMT 10:42 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

بولندا خرقت القانون بقطع أشجار غابة بيالوفيزا

GMT 23:19 2018 السبت ,07 إبريل / نيسان

كلوب يحمل بشرى سارة بشأن محمد صلاح

GMT 01:19 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

لاتسيو يحتفظ بخدمات لويس ألبيرتو حتى 2022

GMT 07:17 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

وفاء عامر تبدي سعادتها لقرب عرض مسلسل الدولي

GMT 09:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

فيسبوك يُجهّز لتسهيل التطبيق للتواصل داخل الشركات الصغيرة

GMT 20:34 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

حبيب الممثلة المطلقة أوقعها في حبه بالمجوهرات

GMT 04:40 2017 الأربعاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

أشرف عبد الباقي يسلم "أم بي سي" 28 عرضًا من "مسرح مصر"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon