توقيت القاهرة المحلي 21:14:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا!

  مصر اليوم -

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا

بقلم:تركي الدخيل

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الْأَمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

قبلَ أن أختارَ بيتًا من الشّعر لأكتبَ عنه، كانَ البيتُ يخطرُ فِي ذهنِي مرةً، ثم يُبعدُه تزاحمُ غيرِه منَ الأمورِ فِي الذّهنِ، وربَّما يقعُ البيتُ من نفسِي موقعاً يجعلُه يتقافزُ مراتٍ؛ مرةً إلى داخلِ الذّهنِ، وأخرَى إلى خَارجِه. لكنَّ هذَا البيتَ استقرَّ بِمُجرّدِ مطالعتِه سريعاً.

ولأنَّ قدرَ مثلِ هذَا البيتِ الاستقرارُ، كانَ أوَّلَ ما قرأتُ فيه، قولُ شيخِ العَربية، أبِي الفتحِ عثمانَ بنِ جنّي، في «الفسرِ الكبِيرِ في شرحِ ديوانِ المتنبّي»، إذْ قالَ تعليقاً علَى البَيتِ: «كَذَا واللهِ يَشْعُرُ النَّاسُ، وإلَّا فَلْيَخْرُسُوا»!

لمْ يكنْ ابنُ جنّي، رَحمهُ اللهُ، يجامِلُ في إعلانِ إعجابِه الكبيرِ، بِشعرِ أبِي الطّيب المتنبّي، ومقولتُه هذهِ تأتِي ضمنَ صدقِه في بيانِ الإعجَابِ.

هناكَ مَنْ روَى البيتَ بِهمزِ «السُّؤَّال»، واختارَ ابنُ جني وغيرُه روايتَه تخفيفًا بحذفِ الهمزةِ (السُّوَّال): وهو جمعُ السَّائلِ (الطَّالب الفقير).

سَبَكَ: الذَّهبَ وَالْفِضَّةَ وَنَحْوَهما مِنَ الذَّائِبِ يسبُكهُ ويسبِكُه سَبْكًا وسَبَّكه: ذَوَّبه وَأَفْرَغَهُ فِي قالبٍ. وسَبِيكَة: قِطْعة مُذابة من الذَّهبِ أو الفضةِ في قالبٍ محدَّدٍ بحسبِ الوزنِ، والجمعُ: سَبائك.

الأموالُ: جمعُ مالٍ، وهوَ مَا ملكتَه من جميعِ الأشياءِ. والمالُ فِي الأصلِ الذَّهبُ والفضةُ، ثمَّ أُطلقَ على كلّ مَا يُملَك ولَهُ قيمةٌ، وكَانتِ العَربُ تُسمّي الإبلَ مالًا لقيمتِهَا عندَهم.

واختَارَ الشَّاعِرُ الحَديثَ عَنِ السَّبكِ، وَهوَ سَبكُ الذَّهبِ والفِضَّةِ، لأنَّهُ الأَصْلُ فِي المَالِ كَمَا سَبَقَ.

وهُنَاكَ مَنْ يَرَى أنَّ المالَ سُمِّيَ مالًا لأنَّ النَّاسَ تَميلُ إليهِ. وإذَا كَانَ الأمرُ كَذلكَ، إذن فَالأَحرَى أنْ يُسَمَّى المُمِيلَ.

خَزن: خَزَنَ الشَّيءَ يَخْزُنُه خَزْنًا، واخْتَزَنَه: أَحْرَزه وَجَعَلَهُ فِي خِزانةٍ وَاخْتَزَنَهُ لِنَفْسِهِ. والخِزَانةُ: اسْمُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءِ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ». والخِزَانَةُ: عَمَلُ الخَازِن. والمَخْزَن، بِفَتْحِ الزَّايِ: مَا يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءُ. والخِزانَةُ: وَاحِدَةُ الخَزائن. (لسان العرب).

وهُوَ اسمُ مَكانٍ. وخُزَّانْ: جمع خَازِن، وهو القَائمُ علَى حِراسَةِ الخِزَانَة.

والمَعنَى: أنَّ الشَّاعِرَ يُخاطِبُ مَمْدُوحَهُ، فَيقولُ لَه: أنتَ الّذِي سَبكَ الأَموَالَ بِجمعِهَا وتَنمِيتِهَا ومُضاعَفتِهَا، وذلكَ مَكرمةٌ منكَ. و«المَكْرُمَة»: فِعلُ الكَرَمِ، وهي مفردُ المكَارِم، فَسبكَ المَمدوحُ الأَموالَ من كَرمِه فَهوَ كَمَنْ سَبكَ الأَموالَ لِيُكرمَ بهَا غيرَه، ويُثبتُ ذلكَ مَا جَاءَ بعدَ ذَلكَ.

فِي عَجزِ البَيتِ يقولُ المُتَنبّي:

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

أيْ: بعدَ أنْ وفَّرتَ الأموالَ وصَنعتَها وضَاعفتَها، اخترتَ مَنْ يقومُ علَى حراستِهَا ومراقبتِهَا، وهمْ ذوو الحَاجاتِ وأهلُ السُّؤالِ مِنَ الفقراءِ، والمُرادُ أنَّكَ وزَّعتَها عَليهمْ من بَالغِ الكَرمِ والسَّخَاءِ.

إنَّ أهلَ الثرواتِ والأموالِ يُخزّنونَ أموالَهم للمحافظَةِ عليهَا، وضَمانِ ألَّا يمسَّها أحدٌ، وألَّا يصيبَها نقصانٌ ولا ضَررٌ، لكنَّ ممدوحَ المُتنبّي الذِي إنَّمَا سَبكَ الأموالَ واصطنعَهَا لأجلِ كرمِه، يختارُ حُراساً لأَموالِه، منَ الفقراءِ الذينَ تضطرُهم الحَاجةُ لِسؤالِ العَطاءِ، وكَأنَّ الممدوحَ يؤمنُ بأنَّ بقاءَ المَالِ في العَطاءِ، والتَّعبير عَنْ كرمِ المَمدوحِ بهذَا المَعنَى مِنْ بَلاغةِ أبِي الطَّيبِ المُتنبّي.

لَا غَرابةَ فِي تَعليقِ ابنِ جِنّي، علَى قولِ المُتنبّي:

أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الَأمْوالَ مَكْرُمَةً

ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا

بِالفِعلِ... كَذَا فَليكنِ الشّعرُ، وإلَّا فَلَا.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا كَذَا فلْيكُنِ الشّعرُ وإلَّا فلَا



GMT 15:28 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

حماية المريض والطبيب بالحوار

GMT 15:26 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

نفس عميق!

GMT 15:25 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

الأزهر لا سواه لها

GMT 15:24 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

أُسطورةُ فى جباليا!

GMT 15:23 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

شركاء فى الجريمة

GMT 07:13 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

علاقات بشار التي قضت عليه

GMT 07:12 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

«في قبضة الماضي»

GMT 07:10 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

«بيرل هاربر» التي لا تغيب

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:49 2024 السبت ,28 كانون الأول / ديسمبر

شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب تعود لإحياء الحفلات في مصر بعد غياب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 12:13 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

معوقات تمويل الصناعات الصغيرة والمتوسطة

GMT 15:36 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : ناجي العلي

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 04:09 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

تخفيضات تصل إلى 50% في أحد المتاجر الكبيرة في 6 أكتوبر

GMT 05:21 2021 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

الكشف عن مسببات جديدة تعزز من النوبات القلبية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon