توقيت القاهرة المحلي 20:55:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

  مصر اليوم -

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

بقلم:تركي الدخيل

وَإِنَّمَا المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ

فَكُنْ حَدِيثاً حَسَناً لِمَنْ وَعَى

هذَا بيتٌ من أبيَاتِ قَصِيدةِ ابنِ دُريدٍ المشهورةِ، التي تضمّ 253 بيتاً، وتُسمَّى القَصِيدةَ «المقصورَة»، لأنَّ رَوِيَّها ألفٌ لَيِّنَةٌ (ألف مقصورة).

وَمَع أنَّ غَرَضَ القَصِيدَةِ الرَّئيسَ كَانَ المَدحَ، إلَّا أنَّ الشَّاعِرَ اغْتَنمَ كُلَّ فُرْصَةٍ واتَتْهُ، ليَبُثَّ الحِكْمةَ في ثَنَايَا مقصُورتِه.

«المَرْءُ»: الإنسَانُ. والمَرْءُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، وامْرُؤٌ عِنْدَ التَّنْكِيرِ، لَفظَةٌ مُشتَقَّةٌ من المُروءَةِ، كَمَا أنَّ لفظةَ الإنسَانِ مشتقةٌ مِن الإنسَانِية، والإنسانيةُ مصدرٌ صناعيٌّ، ومِنَ النَّاحِيةِ المَنْطِقِيَّة لا الاشتقاقيةِ فَإنَّ الإنسَانِيَّةَ هيَ المُشتَقَّةُ من الإنْسَانِ. والمُروءةُ كَمَالُ الرُّجولة، وليسَ للمَرءِ جَمْعٌ من لفظِه.

«حَدِيثٌ بَعْدَهُ»: أيْ بعدَ المَرءِ. والحَدِيثُ هوَ الكَلَامُ، وعَبرَه يَتَواصَلُ النَّاسُ بينَهمْ، ويتبادلُونَ الآرَاءَ، والتَّعليلَ، والأخبارَ.

«بعدَه»: بعدَ رحيلِه عَنِ الدُّنيَا بالمَوتِ.

والمَعنَى: أنَّ الإنْسَانَ يكونُ، بعدَ وفاتِه، مَوضُوعاً لِحَديثِ الأحيَاءِ، فَيَذكرُونَ ما كَانتْ عليهِ سِيرتُه، فإنْ كَانتْ سيرةَ خيرٍ، كانَ حديثُهم عنه حسناً، وإنْ كانتْ سيرةَ شرٍّ، كانَ حديثُهم عنه حديثَ ذمٍّ وقَدْحٍ.

«فكُنْ حديثاً حَسَناً»: اجعلْ مِنْ نفسِكَ بِأفعالِكَ الطَّيبةِ، خَبَراً حَسناً، بعدَ مُغَادَرَتِكَ الدُّنيَا.

و«حَسَناً»: من الحُسْنُ: وهو ضدُّ القُبْح وَنَقِيضُهُ. الأَزهري: الحُسْنُ نَعْت لِمَا حَسُن.

«لِمَنْ وَعَى»: أيْ لِمنَ حَفظَ وفَهِمَ وقَبِلَ.

الوَعْيُ: حِفْظُ القَلبِ الشَّيءَ. وعَى الشَّيْءَ وَالْحَدِيثَ يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فَهُوَ واعٍ. «لسان العرب».

والوعيُ حَدَثٌ عقلانيٌّ، يُعْلِنُ بهِ المَرءُ عنْ وجودِ الأشْيَاءِ، إنَّه دليلٌ علَى حُضورِها في الكَونِ، وحضورنا. لأنّ ما لا نَعِيه، يظلّ حبيسَ ظُلمةٍ دائمةٍ، خارجَ أذهانِنَا، أيْ خارجَ الدنيا.

والمعنَى: ليس الإنسانُ إلَّا خبراً يُنقلُ، وحديثاً يُؤثَر، وقصةً تُذكَر، وسيرةً تُنشرُ، وحكاية تُروَى، ورواية تُحكَى، فاجتهِدْ واعمَلْ صالحاً، لتكونَ أحدوثةً حسنةً مُستحسَنةً، عند أُولي الألباب، الذين يتتبَّعونَ السِّيَر، وينتفعُونَ بالعِبَر، ويتَّعِظُونَ بمَن غَبَر، ويستدلُّونَ عليهمْ بالأَثَر، فيمدحُونَ ويترحَّمونَ، أو بالعكسِ. «شرحُ المقصورة الدريدِية» (عبد القادر المبارك).

الصَّحابِي المُخضرَمُ، حكيمُ العَربِ، أكثمُ بنُ صَيفي، يقولُ: «إنَّمَا أنتمْ أخبَارٌ، فطَيِّبُوا أخبارَكم».

قالَ حكيمٌ: «الأيامُ مَزَارِعُ، فمَا زَرَعتَ فيهَا حَصَدتَهُ».

وكَانَ العَلَّامَةُ، الحِبرُ، التَّابعيُّ، كَعبُ الأحْبَارِ، مَتينَ الدّيَانَةِ، مِنْ نُبَلاءِ العُلَمَاءِ، ومِنْ مَقولاتِه: «إذَا أحببتُمْ أن تعلَمُوا مَا للعَبْدِ عند ربِّه، فانظرُوا ما يَتْبَعُه من حُسْنِ ثناءٍ».

ومِنْ كِبارِ التَّابِعينَ، الإمامُ، القُدوةُ، الحُجّةُ، مُطرفُ بنُ الشخير، وكَانَ يقولُ: «عنوانُ كَرامةِ اللهِ لعَبْدِه، حُسْنُ الثَّناء عليهِ، وعنوانُ هَوانِه، سوءُ الثَّناءِ عليهِ».

وفِي المَنْحَى ذاتِه، قالَ الغنويُّ:

فإذَا بلغتُمْ أهلَكُم فتحدَّثوا ومن الحديثِ مَهالكٌ وخلودُ

وللشَّاعرِ الجَاهِلِيِّ، قطبةَ بنِ أوسِ بنِ مُحصنٍ، قولُه:

فَأَثْنُوا عَلَينَا لَا أبَا لأبيكمُ

بإِحْسَانِنَا إِنَّ الثَّنَاءَ هُوَ الخُلْدُ

أمَّا مضرسُ بن ربعي الأسَدِي، فقالَ:

فإنّي أُحبُّ الخُلْدَ لو أستَطِيعُه

وكالخُلْدِ عندي أن أموتَ ولم أُذَمْ

وكانَ أبو عمرو بن العلاء يتمثَّلُ، فيقولُ:

وسيبقَى الحديثُ بعدَك فانظر

خيرَ أحدوثةٍ تكونُ فكُنْهَا

والمعنَى ذاتُه توسَّع فيه داودُ بن جهور، فقالَ:

إذا أعْجَبَتْكَ طِباعُ امرِئٍ فكُنْه يَكُنْ مِنْكَ ما يُعْجِبُك

فليسَ على الجُودِ والمَكْرُماتِ حِجَابٌ إذا جِئْتُه يَحْجُبُك

ولأبِي الطَّيّب:

ذِكْرُ الفَتَى عُمْرُهُ الثَّاني وحاجَتُهُ

ما قَاتَهُ وَفُضولُ العَيْشِ أَشْغَالُ

ووصية أبي الحسن التهامي، ألا تطمئن للحياةِ، ولو كنتَ من نقلةِ الأخبار... يقول:

بَيْنَا يُرَى الإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً

حَتَّى يُرَى خَبَراً مِنَ الأَخْبَارِ

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه



GMT 15:22 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الفشل الأكبر هو الاستبداد

GMT 15:21 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

حافظ وليس بشار

GMT 15:17 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

سلامة وسوريا... ليت قومي يعلمون

GMT 15:06 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

التسويف المبغوض... والفعل الطيِّب

GMT 15:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

نُسخة مَزيدة ومُنَقّحة في دمشق

GMT 15:03 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

الشهية الكولونيالية

GMT 15:01 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

البحث عن الهوية!

GMT 13:05 2024 الخميس ,26 كانون الأول / ديسمبر

عودة ديليسبس!

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:31 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

التعادل السلبى يحسم مباراة تشيلسي وايفرتون

GMT 04:44 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يصل إلى السعودية

GMT 11:41 2018 الثلاثاء ,17 تموز / يوليو

شيرين رضا تكشف سعادتها بنجاح "لدينا أقوال أخرى"

GMT 09:36 2018 الأحد ,01 تموز / يوليو

دراسة تنفي وجود "مهبل طبيعي" لدى النساء

GMT 10:26 2018 السبت ,07 إبريل / نيسان

" لفات الحجاب" الأمثل لصاحبات الوجه الطويل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon