بقلم:ممدوح المهيني
في إحدى زيارات الرئيس السوري السابق بشار الأسد لموسكو قام الرئيس الروسي باحتضانه، ويبدو في الصورة كأن الأب يحتضن ابنه المذعور ويهدّئ من روعه ويربت على ظهره. منظر يدعو للشفقة على الرئيس الذي هرب خلسة في الظلام إلى حضن «الأب» الذي لم يعد يستطيع أن يحميه أكثر من ذلك وقرر أن يمنحه اللجوء لظروف إنسانية وهو الآن يقيم في شقة في موسكو بعد أن فرّط بـ«ملكه»، ولم يحافظ عليه كالرجال.
إن سقوط الأسد وتهاوي نظامه بعد أن ترك بلداً محطماً واقتصاداً فقيراً ومجتمعاً مقسماً يذكرنا بغيره من الزعماء المستبدين في منطقتنا الذين لم يتركوا خلفهم دولاً راسخة وجيوشاً قوية واقتصادات متينة، وإنما مجرد هجائيات للدول «الرجعية» الخليجية الناجحة والقوى الإمبريالية وأدبيات مستهلكة ومملة عن المؤامرات وأعداء الأمتين العربية والإسلامية. في الوقت الذي كان العالم يتطور ويتغير ويتصل ببعضه كانوا يتحدثون عن الصمود والبطولات، لكنها تلاشت في لحظات. والمفارقة أنهم على العكس من الديكتاتوريين من دول أخرى الذين رغم الفظائع التي ارتكبوها من مجازر ومجاعات، فإنهم صنعوا آلات عسكرية وجيوشاً قوية واقتصادات تبنَّت مشاريع إصلاحية ضخمة وكان هناك بقايا من بُنى مؤسسية سرّعت من نهوضها مرة أخرى بعد هزيمتها.
مع صعود النازية للحكم في عام 1933 تمكنت الحكومة من بدء برنامج ضخم لتشييد، وإصلاح الطرق، وسكك الحديد والمنازل. تمكنوا من تخفيض معدل البطالة إلى درجة كبيرة ومع بناء جيش قوي صنعت آلاف الوظائف في صناعات الطيران والسفن والفولاذ. صناعة السيارات الألمانية ازدهرت في ذلك الوقت، وانعكس مد الطرق بين المدن الكبرى إيجابياً على أرباحها وأسس في 1937 حينها هتلر شركة «فولكس واغن» لإنتاج سيارات رخيصة تتمكن العائلة الألمانية من شرائها. اقتصاد ألمانيا النازية القوي الذي كان عبارة عن خليط من القطاع الخاص والمملوك للدولة (الأنظمة الفاشية تركت مساحة للشركات الخاصة على عكس الأنظمة الشيوعية) تمكن من دعم الجيش الألماني الذي وصل إلى 17 مليون جندي وأصبح قوة ضاربة استطاع أن يبتلع القارة الأوروبية في سنوات معدودة.
من جانبه، موسوليني كانت لديه عقدة من ضعف إيطاليا إلى جانب القوى الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا. سيطرت عليه طموحات بأن يجعل من إيطاليا عظمى ومن نفسه قائد دولة قوية متجاوزاً مساحتها الصغيرة؛ ولهذا نجح في تحديث الاقتصاد الإيطالي وفي سنواته اتخذ قرارات إصلاحية رأسمالية مثل إصلاح النظام الضريبي وتحرير الاتحادات العمالية، واستطاع أن يرفع من حجم الاقتصاد ليصل إلى 17 في المائة. ومن ثم غيّر نهجه الاقتصادي ليقلل من ليبراليته التي بدأها ويصبح أكثر فاشية، ومع هذا أطلق مشاريع إصلاحية للبنية التحتية كان يقارنها بمشاريع الصفقة الجديدة التي أُطلقت في الثلاثينات في عهد الرئيس روزفلت. وفي عهد موسوليني أطلق الوعود الثلاثة لإصلاح الأرض والعملة وإنتاج القمح.
ستالين زعيم الاتحاد السوفياتي ورث بلداً زراعياً وحوّله بلداً صناعياً وقوة عظمى، وبموته كان الجيش الأحمر من أقوى جيوش العالم، حيث تجاوز عدد المجندين خلال الحرب العالمية الثانية 34 مليوناً. بسبب خوفه من قدرة خصومه الرأسماليين الغربيين من التفوق عليه وهزيمته، أطلق ستالين نهاية العشرينات مشروعاً إصلاحياً مركزياً لتحديث اقتصاد بلاده عبر الخطط الخمسية وحقق خلالها زيادة ضخمة في إنتاج النفط والغاز والفحم والفولاذ؛ الأمر الذي أدى إلى نمو اقتصادي كبير وجعل من موسكو القطب الثاني في العالم في مواجهة الغرب.
نعرف الفظائع التي ارتكبها هؤلاء الزعماء وفي نهاية المطاف دمَّروا بلدانهم بسبب الآيديولوجيات القومية والعنصرية المتطرفة واتخذوا سياسات متوحشة وتسببوا بمجاعات، وألقوا الأبرياء في غرف الغاز والمعتقلات ولقوا في نهاية المطاف مصيرهم مُعلَّقين في الساحات أو يبتلعون أقراص السم. لكنهم تمكنوا من بناء اقتصادات ناجحة في وقت ما وجيوش قوية، حتى لو عبر ممارسات عنيفة، لكن قارنهم بالمستبدين في عالمنا العربي. هزيمة مذلة في ستة أيام، وزعيم أُخرج مختبئاً في حفرة قذرة، وآخر قُتل وسُحل على مرأى العالم ورابع هرب في الظلام في طائرة روسية، وكلهم تركوا خلفهم بلداناً فقيرة واقتصاداً مهشماً ومجتمعاً متناحراً وجيوشاً مهترئة وجنوداً جائعين، ولم يأخذوا من المستبدين الغربيين إلا مهارة القتل الجماعي واستقدام صناعة الأسلحة المحرمة والاستعراض في الخطب في الوقت ذاته الذي كانت دولهم تتهاوى تحت أقدامهم المرتعشة.