أسامة غريب
تمثل المعتقدات الدينية والاجتماعية موروثاً تتداوله الأجيال فى المجتمع الواحد جيلاً بعد جيل. يستمر ذلك لفترات تطول أو تقصر حتى يحدث تغيير فى بنية المجتمع بناءً على ثورة اجتماعية مثل الثورة الفرنسية أو ثورة دينية مثلما حدث فى أوروبا بعد أن ثار الناس على كهنوت الكنيسة التى وصل بها الشطط إلى بيع صكوك للغفران تمنح حاملها مكاناً متميزاً فى الجنة!
يقول علماء الاجتماع إن الإنسان الطبيعى لا يتنازل بسهولة عن معتقداته لأنها تمثل جزءاً لا يتجزأ من أعمدة بنيانه الوجدانى والنفسى، وفى رأيى فإن مصطلح الإنسان الطبيعى هنا يحتاج إلى إعادة نظر لأنه قد يضفى صفة الطبيعية على كيانات وأشخاص مشكوك فيهم، فعلى سبيل المثال فإن عمرو بن هشام الشهير بأبى لهب كان وفياً أشد الوفاء لدين آبائه وأجداده، ولم يجد أى دافع لهدم المنظومة الفكرية التى اعتنقها منذ مولده، والتى ساعدته على التوازن والثبات النفسى.. وإذا كان العقل والمنطق يرفضان أن يصنع الإنسان صنماً ثم يعبده فإن المعتقدات الدينية لا تخضع لمنطق سوى منطق الراحة النفسية التى يمنحها الإيمان للفرد، لدرجة أنه قد يعبد بقرة أو قرداً، ثم يجد مبررات داعمة لهذا الإيمان!
وإذا كان علم الاجتماع يجعل من أبى جهل وأبى لهب شخصين طبيعيين لأنهما حاربا بضراوة الدين الجديد الذى أتى لهدم الأسس الفكرية للمنظومة الاجتماعية القائمة بالكامل، وإذا كان يضع معهما أبا طالب عم الرسول «صلعم»، الذى رعاه وحماه ومنع أذى القوم عنه، لكنه لم يؤمن بالرسالة المحمدية وفضّل الحفاظ على النسق الفكرى الذى كوّنه بالوراثة منذ الصغر.. إذا كان ذلك كذلك فإن هذا العلم وغيره من العلوم السلوكية ومناهج التنمية البشرية لابد أن تنظر إلى أشخاص مثل على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، على أنهما غير طبيعيين لأنهما خرجا على معتقدات الآباء والأجداد، ومنحا نفسيهما طمأنينة من نوع جديد استندت إلى راحة القلب والعقل معاً، ومارسا أقصى درجات الشجاعة فى تصديق ومناصرة رجل خرج على المعتقدات الآسنة، ولم يمتلك سوى كلمته فى مواجهة الجهالة والاستبداد.
والحقيقة أن هذا النوع من الشجاعة الذى أبداه الصحابة الأوائل، والذى أبداه أيضاً المصريون المسيحيون فى عصر الشهداء، وغيرهم ممن رفضوا أن يصنفوا تحت بند الإنسان الطبيعى، قد توقف بعد أن استتب الأمر للمسيحية وللإسلام، بمعنى أن الأجيال التالية بعد ذلك كانت تنتمى للدين بالوراثة، ولم يتعرض الناس لاختبارات تقتضى التضحية والمراجعة والوقوف مع النفس وقفة حاسمة.. أصبح الأمر هو توارث المعتقد الدينى، ولم يعد هناك من يختار دينه عن دراسة وتمحيص واقتناع إلا قلة نادرة، فلماذا إذن كل هذا التعصب والتحزب للمعتقد وسهولة رمى الآخرين بالكفر؟ وحتى لو كان هذا الاتهام لا يخرج للعلن لأسباب اجتماعية وقانونية فإننى أعلم أنه يملأ النفوس!
لا أحد يدعو إلى دين جديد يثبت الناس شجاعتهم من خلال اعتناقه، لكن ما يحتاج لشجاعة تماثل ما كان لدى الصحابة والحواريين هو الدعوة لاحترام معتقدات الآخرين التى وصلتهم أيضاً بالوراثة، لأنها أياً كان الرأى فيها تريح أصحابها وتسعدهم ولا تؤذينا.. فهل هذا صعب؟ أكيد صعب، ويزيد من صعوبته أن معظم البشر طبيعيون!