أسامة غريب
أحياناً أنظر للطغاة الجبابرة الذين أخضعوا شعوبهم وفرضوا عليها الذلة والمسكنة نظرة إشفاق لأنهم على كل ما حازوه من جاه وسلطان وقدرة على فرض الإرادة لم يستغلوا سطوتهم هذه فى أى شىء نافع للناس أو حتى لأنفسهم، وكل ما استطاعوا الحصول عليه هو التلذذ لرؤية الدماء النازفة والطرب لسماع أنّات الضحايا.
أما أنا شخصياً فلو كنت أملك القدرة والنفوذ لاستخدمتها على نحو أفضل من هؤلاء بكثير.. لا أقول إننى كنت سأسعد البشرية أو أحل مشاكل الكوكب، لكنى كنت على الأقل سأفرغ شحنات التجبر والقهر فيما يسعدنى ولا يؤذى أحداً. على سبيل المثال كنت سأقوم بإحضار فريق البولشوى بكامل هيئته وأستضيفه فى المسرح الكبير الذى سيمتلئ حتماً بالآلاف من محبى الفنون الراقية، ولم أكن لأمنع أحداً من الدخول، إذ ما جدوى أن يشاهد المرء عرضاً بديعاً مما تقدمه هذه الفرقة الروسية العظيمة وحده؟ إن جزءاً من الاستمتاع يكمن فى أن آلاف البشر يرون ما تراه ويشعرون بما تشعر به ويستمتعون بما يمتعك فى نفس الوقت ويشاركونك اللحظة الحلوة بدلاً من أن تأتى هذه اللحظة عليك وأنت حبيس قصرك لا تشعر بأحد ولا يشعر بك أحد.
لم أكن لأكتفى بالبولشوى لكنى كنت سأشرع فى استدعاء أوركسترا برلين السيمفونى وأوركسترا فيينا أيضاً لأستمع منهم إلى مقطوعات بيتهوفن وشوبان وموتسارت وغيرهم من أساطين الموسيقى الكلاسيك، كما كنت سأجلب أيضاً أبرع راقصى التانجو من البرازيل والأرجنتين وسائر مناطق أمريكا الجنوبية وأتركهم يقدمون أمامى إبداعاتهم الفنية الراقصة. وفى هذه السهرات لم أكن لأدعو الوزراء أو المحافظين أو ما يعرف بكبار رجال الدولة، ذلك أننى أعلم أن أغلبية هؤلاء لا تربية ولا تعليم وأنهم لا يتذوقون الفنون ولا يفهمون الموسيقى ولا يخضعون لجلال الإبداع أو يشعرون برهبة الجلوس بين يدى هذه النفحات من روح الله التى أنعم عليها بالموهبة والتفوق. الجديد فى هذه السهرات هو أننى كنت سأصطحب معى صينية فتة كوارع بالخل والثوم مع حلة شوربة لسان العصفور يتوسطها أرنب مسلوق بالإضافة لطبق ممبار كبير والكثير من المخلل. وكنت سأستمتع برؤية السفرجية يفرشون لى المائدة الصغيرة ويضعون الطعام أمامى ثم يبتعدون مسرعين ليفتحوا لى مجال الرؤية قبل أن ينالهم غضبى.. وكنت سأشرب الشوربة بصوت مرتفع ولن أتردد فى أن أرفع السلطانية وأعب منها مباشرة بدلاً من الملعقة الخائبة.. كل هذا كنت سأفعله وأنا أتابع العازفين وأمضى معهم صعوداً وهبوطاً، ولن ينتهى العرض قبل أن أكون أتيت على صينية الفتة والتهمت بعدها طبقين قمر الدين. والذين يبدون الدهشة من أن يجمع شخص واحد بين حب البولشوى وحب الكوارع ولحمة الراس فإنهم لا يستحقون عناء الرد عليهم لأنهم لم يخبروا الحياة الحقيقية بعيداً عن كتب التنمية البشرية.. أما الذين يقولون لأنفسهم بصوت خفيض خشية أن أسمعهم: أما كان باستطاعة هذا الرجل أن يؤجل تناول الممبار لما بعد العرض؟ فإننى أقول لهم: وكيف يستمتع المرء بكونه طاغية إذن؟ هل تريدوننى أن أقطع الرؤوس لأثبت لكم جبروتى يا أغبياء؟