أسامة غريب
الفقر لا يؤدى بالضرورة إلى السخط والنقمة، ولكن التفاوت الصارخ بين الناس فى مستوى المعيشة هو الذى يزرع الغضب.. وقد ساهم البث الفضائى فى إدخال ملايين الفقراء كهوف الإحباط والكآبة، بعد أن سمحت لهم قنوات التليفزيون برؤية ليس ما يحدث فى الخارج فقط، بل رؤية كيف يعيش الآخرون فى بلدهم ذاته. ولقد تمكن العبقرى صلاح جاهين من رؤية تأثير الإعلانات التليفزيونية التى تروج للسلع والمنتجات والفيلات والمنتجعات الساحلية فى المجتمع الفقير.. تلك الإعلانات التى تحوى دائماً فتاة حلوة مع السلعة المراد تسويقها. التقط جاهين هذا فقال فى إحدى رباعياته: ياللى نصحت الناس بشرب النبيت/ مع بنت حلوة وعود وضحك وحديت/ مش كنت تنصحهم منين يكسبوا تمن دا كله ولّا يمكن نسيت!..عجبى.
التفاوت الشديد فى الدخول مع معرفة الناس واطلاعهم على أوجه الحياة المرفهة التى يعيشها غيرهم ساهم إلى حد كبير فى خلق الإنسان معدوم الضمير، الإنسان الذى يرحب بالكذب والغش والرشوة وأى وسيلة تدفع به إلى مجتمع المنعّمين أو على الأقل تسد احتياجاته الأساسية. وهكذا تفسخ المجتمع بعد أن أصبحت الشهامة والنجدة والوفاء عبئاً ثقيلاً على صاحبها قد يؤدى إلى تشريده وتجويع أبنائه. لكن ما دور الدين فى حالتنا هذه؟ فى الحقيقة إن ما حدث فى المجتمع المصرى يمثل حالة كلاسيكية يمكن تدريسها على مدى السنوات القادمة.. لقد كانت الأدبيات الماركسية تتحدث عن الدين باعتباره مخدراً يدجّن الفقير ويجعله راضياً عن عذابه فى انتظار الجنة ونعيمها فى الآخرة، لكن الحالة المصرية فى السنوات الثلاثين الأخيرة تدحض أفكار ماركس وتسخر منها، حيث إن التدين فى المجتمع المصرى لم يكن بمثابة الأفيون الذى يجعل الناس ترضى بالمقسوم، إذ إن الذى يرضى بالمقسوم هنا هو إنسان لم يفقد ضميره، أما فى حالتنا هذه فغالبية الناس تخلت عن الضمير ولم ترض بالقسمة والنصيب وإنما استجابت لدواعى السوق واكتسبت مهارات البقاء حتى أصبح الناسُ جميعاً يسرقون الناسَ جميعاً.. تقريباً!. وأصبح التدين يقوم بوظيفة خداع النفس لإقناعها بأن المرء وإن كان يرتشى ويكذب ويغش ويخون ويطعن فى الظهر إلا أنه ما زال يؤمن بالله ويؤدى فروضه فيصوم ويصلى ويكثر من رحلات العمرة.. وهذا من شأنه أن يخفف الشعور بالإثم ويمنح الشخص معدوم الضمير إحساساً زائفاً بالرضا عن النفس وبالقرب من الله.. ومن حسن حظ هؤلاء أن خطاً لإنتاج الشيوخ والدعاة قد تم تدشينه فأخذ يطلق منتجاته فى الأسواق، وهؤلاء عملوا على إثارة فزع الناس من الثورة أو الجهاد أو المطالبة بالحقوق، إذ ما حاجتنا إلى كل هذا إذا كنا نستطيع أن نقلّب عيشنا بأى طريقة بما فيها خيانة الأمانة والعمالة للأمن وقبول الإكراميات، ثم نفتح التليفزيون فى المساء ونستمع إلى الداعية اللطيف وهو يحكى حواديت حلوة عن سير الصحابة والأنبياء، مع رحلة العمرة آخر السنة التى سنكون فيها بصحبته شخصياً!.. هذا عن تأثير الدين على الفقراء المتدينين، أما الفقراء غير المتدينين فقد فقدوا ضمائرهم أيضاً وأصبحوا فاسدين إلا أنهم نجحوا فى الاستغناء عن الداعية اللطيف!.. وهكذا أخرج الفقراء المصريون ألسنتهم لماركس وأثبتوا له أن الدين مع الفقر لا يجعل الناس ترضى بالمقسوم، لكن يجعل منهم متدينين سفلة!