أسامة غريب
كنت فى زيارة لمدينة بوسطن الأمريكية، وبينما أعبر الشارع فى طريقى لحضور اللقاء الذى قدمت من أجله أبصرت مجموعات من الشباب يجلسون متناثرين حول حديقة مررت بها، وعندما مضيت فى السير ازداد عدد الشباب الذين كان واضحاً أنهم من الطلبة الجامعيين وكان بعضهم يفترش الأرض والبعض الآخر يجلس على دكة خشبية وجانب يسير متمهلاً، ومنهم من يفتح جهاز اللاب توب مستغرقاً فى استعماله. علمت بعد ذلك أننى دون أن أدرى كنت أخترق حرم جامعة هارفارد التى تعتبر الجامعة رقم واحد فى العالم من حيث المستوى العلمى وقيمة الأبحاث التى تخرج منها.. هارفارد العريقة التى قدمت للعالم عدداً كبيراً من الحاصلين على جائزة نوبل فى فروع الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات.. هارفارد الراقية التى تعد من أصعب جامعات العالم من حيث شروط القبول والتى تعتبر حلم الملايين من الشباب الراغب فى أن يتعلم بشكل حقيقى.. هذه إذن هى هارفارد التى تخرّج فيها سبعة رؤساء أمريكيين، كما تخرج فيها بيل جيتس، وكذلك مارك زوكربيرج، مؤسس موقع فيسبوك.
فى طريق العودة كنت أنظر لمبانى الجامعة إلى يمينى ويسارى بقدر من الرهبة يليق بجلال المكان، وأدركت أن المنطقة بأكملها هى منطقة علمية تحفل بالكليات والمعاهد، ومن بينها معهد ماساتشوسيتس للتقنية الذى طبقت شهرته الآفاق، والعجيب أن مبناه كان متواضعاً لا تكاد تصدق من فرط بساطته أنه المكان الذى خرجت منه معظم المخترعات الحديثة التى دفعت البشرية خطوات على طريق التقدم.
لا أدرى لماذا كان مرورى بهذا المكان دافعاً لامتلائى بشعور من النشوة والسعادة مثلما كان الأمر عندما كنت أسكن فى مدينة مونتريال بجوار جامعتى ماكجيل وكونكورديا.. وقتها كنت لا أفهم كيف تكون الجامعة بلا أسوار، وكيف تكون مبانيها متخللة شوارع المدينة، حتى إن المرء يعبرها وهو لا يدرى أنه فى حرم جامعة مهمة.. اعتدت فى ذلك الوقت أن أحمل جهاز الكمبيوتر الشخصى وأذهب للجلوس فى واحدة من المقاهى المحيطة بالكليات وأقوم بالعمل والكتابة فى جو ساحر تغلفه ثرثرات الطلبة ونقاشاتهم العلمية والأدبية والسياسية.. ولا أخفى أننى كنت أغبط هؤلاء الشباب وأتمنى لو أننى حظيت بفرصة لعيش حياة جامعية جادة ومرحة ومنطلقة مثلما يعيشون، وكانت تلك المشاعر تنتابنى مغلفة بالحسرة على حالنا فى عالمنا العربى البائس الذى لا تقدم فيه الدراسة الجامعية للطلبة شيئاً مما يفترض أن تقدمه، فجامعاتنا هى قلاع أسمنتية محاطة بتحصينات وأسوار يدير العمل فيها نفس الاستبداد الذى يدير كل المؤسسات، وهى تعتبر للأسف من محاضن الفكر المتخلف والمتطرف، ومن أدوات القمع الفكرى وكبح الخيال.
أثار المرور بجوار جامعة هارفارد فى نفسى كل هذه الشجون، وحزنت على آلاف الطلاب النوابغ فى بلادنا الذين تُغتال مواهبهم بفعل النظم التى تهدف للسيطرة على الخيال وعدم السماح له بتجاوز تقديس أشخاص ومؤسسات لا قيمة لها.. ولهذا فليس غريباً أن التصنيفات المحايدة لا تضع أى جامعة عربية ضمن أفضل جامعات العالم، وكيف تكون بينما جانب من الطلبة والأساتذة بدلاً من الانشغال بكتابة الأبحاث يكتبون تقارير أمنية، بينما الجانب الآخر من الطلبة والأساتذة يتبدد وقته وجهده فى الحفاظ على قيثارته بدلاً من أن يعزف ألحانه!