أسامة غريب
لم يكن هيكل هو الأستاذ الوحيد الذى عرفته الجماعة الصحفية الحالية، إذ إن الأجيال المعاصرة له وتلك التى تلته كان بها الكثير من النماذج الناصعة، وعلى سبيل المثال فقد عرف الجيل الذى ينتمى إليه رؤساء التحرير الحاليون أساتذة مثل جلال الدين الحمامصى وأحمد بهاء الدين ومحمود عوض، وكل منهم كان قامة صحفية وفكرية سامقة، يصلح لأن يكون شيخ طريقة له أتباع ودراويش ومريدون.. فلماذا بزّهم هيكل جميعاً فى فرض أستاذيته على محبيه على نحو شديد الوضوح؟ أعتقد أن تواضع وهدوء الشخصيات الثلاث التى قدمتها كأمثلة وتفضيلهم العمل فقط بدون بروباجندا وعلاقات عامة كان يكفى لأن يصرف الشباب عن النظر إليهم بحسبانهم من أرباب مفاتيح الكون.. من أولئك الذين يفطرون مع تاتشر ويتناولون العشاء مع أغا خان وقد يتعثرون فى أحمدى نجاد وهم فى طريقهم للقاء الأم تيريزا!.. كان هيكل ناجحاً.. لا شك فى هذا، لكن إبراهيم الفقى، صاحب النظريات اللولبية فى التنمية البشرية، كان يفوقه نجاحاً لو كان المعيار هو القدرة على حشد الأتباع فى الميديا وتكوين ألتراس صحفى يخمش من يقترب من الهيكل!.
لقد كان هيكل الجورنالجى من أوائل من أتقنوا حرفة التسويق والمبيعات وعرض الذات فى الفاترينة بشكل مبهر.. وبطبيعة الحال كان للرجل مميزات السيلزمان الأمريكى المحترف، ذلك الذى يوهم زبائنه بأن ما يفعله ليس بيعاً.. أنا لا أبيع لكم سلعة لكنى أدعوكم للاشتراك فى برنامج، وللاشتراك فى البروجرام فوائد هى كذا وكذا. هذه هى الطريقة الأمريكية فى بيع السلع.. البيع ليس اسمه بيعاً، وكذلك كل الأشياء ليست كما هى بادية. وللأمريكان طريقة يعرفها من أخلصوا فى دراسة الفرق بينهم وبين الإنجليز فى الإعلام. الجمل الكبيرة واللافتات الطويلة التى تحتاج دائماً إلى حروف ترمز إليها مثل «إف. بى. آى» و«سى. آى. إيه».. وقد كان هيكل هو صاحب مصطلح نكسة، وتعبير إزالة آثار العدوان، وجملة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وكل ما سبق تراكيب أمريكانى تهدف إلى ملء وعاء فارغ. كل هذه القدرة على التلاعب بالألفاظ وقطم عنق الحقائق لم تكن موجودة عند أستاذ مثل بهاء الدين عُرف عنه الوضوح والمباشرة وافتقاد مهارات البيع حتى إن مخه رفض التوائم مع ما يرفضه فانفجر.. أما رجل بحجم محمود عوض فقد جاء فى الزمان الخطأ.. هذا كاتب سياسى من طراز رفيع ومحلل فنى لا نظير له وأستاذ فى النفس البشرية، ومع هذا فلم يمتلك بودى جاردات ولا صهبجية ولا عازفى أرغول يذودون عنه عندما أجلسه رئيس تحرير متواضع القدرات فى البيت ومنعه من الكتابة لمدة ربع قرن!.. كما تكمن مأساة رجل مارس الصحافة بنزاهة ودرّسها لأجيال متعاقبة من الطلبة هو جلال الحمامصى فى أنه كان معارضاً لشطحات الرؤساء من عبدالناصر للسادات، فلم تمنحه السلطة ما منحت هيكل من قرب وتدليل ومعلومات وشراكة. هذه مجرد أمثلة لصحفيين أفذاذ عاشوا فى زمن هيكل ولم يقلّوا عنه ثقافة أو موهبة أو حتى معرفة باللغة الإنجليزية، لكنهم لم يمتلكوا قدراته فى التنمية البشرية ولا مهاراته فى التسويق وفن البيع!