بقلم - أسامة غريب
وقف فى الحمام أمام المرآة وهو لم يبرأ تمامًا من آثار النوم. فتح الحنفية وأمسك بالصابونة حتى يغتسل لكنه أجفل ونظر إليها فى جزع.. ما هذا؟ سأل نفسه.. إن هذه الصابونة تعيش معى بهذا البيت منذ عدة شهور ولا أظنها تنوى أن تذوى وتختفى!.. كيف لم أنتبه من قبل إلى هذا الأمر؟ هل من الطبيعى أن تبقى الصابونة على الحوض كل هذه الشهور؟.
أجال النظر فى أنحاء الحمام، ثم وقع بصره على الصابونة الأخرى الموضوعة على الحامل بجوار الدُش فوجدها قد صغرت كثيرًا حتى صارت بروة صغيرة، وأدرك أنه لابد من تغييرها ووضع صابونة جديدة مكانها.
فتح أحد الأرفف العلوية حيث قام بتخزين الصابون والشامبو ومعجون الأسنان فأبصر التموين الذى أحضره من السوبر ماركت ما زال وفيرًا ولم يتأثر. تناول صابونة جديدة وهو يتساءل: لماذا يقوم بتغيير صابونة الاستحمام كثيرًا بينما الصابونة القابعة على حوض غسيل الوجه لم تتغير منذ سكن هذه الشقة؟، أجابته نفسه بأن الاستحمام اليومى وغسل الجسم كله يستهلك الصابونة ويدفع لتغييرها، بينما صابونة الحوض قليلة الاستعمال ومن الممكن أن تعيش طويلًا.
أزعجته هذه المسألة إلى أقصى حد. نظر فى غيظ إلى الصابونة التى لا تريد أن تنتهى وتصورها عدوًا يتربص به. إنه لا يحتاج إلى منغصات.. فلماذا برزت له مسألة الصابونة الآن بالتحديد؟. إنه يراها منذ أربعة شهور تقريبًا ولم تلفت انتباهه.. فما الذى جعله يلتفت إليها وينشغل بها اليوم؟.
تذكر أنه يسكن هذه الشقة ويعيش فيها وحده بعد أن تسلم عمله الجديد فى البلد الشقيق وترك أسرته فى الوطن، كما تذكر أن مخزون المنظفات مثله مثل التموين، ومخزون الأطعمة كان يفرغ سريعًا هناك فى الوطن حيث كان يعيش وسط أسرته وبين أولاده.. لقد كانت دورة الاستهلاك سريعة ومبهجة!، لم يدر لماذا ربط بين كل هذا والصابونة اللعينة القابعة هناك!.
يبدو أن شعوره بالعجز عن تغيير الصابونة هو ما ربط بينها وبين غربته وعدم قدرته على وضع حد لها، وبصراحة هو لا يقدر على التخلص من الصابونة وفَتْح واحدة جديدة لأسباب نفسية تتعلق باعتقاده أن الافتراء والبَطَر من مسببات زوال النعمة، وأنه طالما كانت الصابونة سليمة وشغّالة فإنه لابد أن يعيش معها للنهاية حتى تفنى بصورة طبيعية. لا حل لاستهلاك الصابونة بسرعة إلا بالعودة للوطن والحياة وسط الأبناء، حيث لا رتابة ولا ملل ولا صابون معمّر. سوف يفرغ الآن من الاستحمام ويذهب إلى العمل ليقدم استقالته ثم يعود لحضن الوطن.
ارتدى ملابسه وهو يفكر ويحسب ويجمع ويطرح ويقوم بكل العمليات الحسابية الممكنة حتى يطمئن إلى صحة قراره، ثم غشيته كآبة لأن الحسبة فشلت. مال إلى الحمام قبل أن ينزل وألقى نظرة سريعة على الصابونة قبل أن يقول لها متراجعًا: سأحتملك إلى أن تذوبى وتنتهى وبعدها أقدم استقالتى وأسافر.. هذا إذا لم أتعود كغيرى هنا على الصابون المعمر الذى لا يفنى!.