بقلم - أسامة غريب
بعض الذين ساءت أخلاقهم من البشر قد يكونون ضحايا لولادتهم ونشأتهم فى بلاد لا تشجع الفرد على أن ينشأ محترما عزيزا شامخا، والبعض الآخر قد تتعزز ميوله نحو الشرف بفعل ولادته فى بلاد لا تتسامح مع الفساد والانحراف. ليس الرقى والسمو فى الأخلاق والسلوك متوقفا على الثروة أو ما يحوزه الإنسان، ولا هو متوقف على درجة تعليمه وحدود معارفه العامة، كذلك لا يرتبط بإيمانه أو كفره، انتسابه إلى دين أو بعده عن المعتقدات الدينية.
النوع الراقى من البشر هو الذى يستطيع أن يأكل ويشرب ويجد حاجته من الملبس والمسكن دون أن يضطر إلى الكذب كل يوم. وهذا النوع من البشر لا يصدف أن يوجد إلا فى المجتمعات التى تدعم الصدق وتكافئ عليه. وللأسف فإن بلادنا العربية معظم البشر الذين تنتجهم مجتمعاتنا فكذابون. البيت يعلمهم الكذب حتى يضمن لهم السلامة والأمان، والمدرسة تعلمهم الكذب حتى تضمن لهم التفوق والحصول على الشهادة، والإعلام يعلمهم الكذب من أجل ألا يتعرضوا للأذى. هكذا هو الأمر لدرجة أن الكثير من الناس أصبحوا يقدمون ما يسمى الكذب الاستباقى أو الكذب الذى لا تدعو الحاجة إليه.. وعلى سبيل المثال فهناك من تسأله: ماذا فعلت بالأمس، فيحكى لك أشياء مغايرة تماما لحقيقة ما فعله، وذلك على الرغم من أن الإجابة الحقيقية لا تتضمن ما يسوء ولن تكون مزعجة لأى أحد، لكنه يكذب على سبيل الاحتياط لأن التجربة علمته أن الصدق فى الغالب ضار وغير مطلوب!. ومن الطبيعى أن الذين يعيشون حياة من هذا النوع، أى النوع الذى يرفل صاحبه فى الكذب والنفاق هم تعساء من الداخل ويفترض أنهم يحملون اكتئابا داخليا وأمراضا نفسية لا أول لها ولا آخر نتيجة الضغوط التى تنوء بها أكتافهم.. هذا هو الطبيعى والمفترض، لكن يؤسفنى أن أقول إن هذا ليس صحيحا على الدوام، فبعض المجتمعات قليلة الحظ من الصدق والصراحة والتى يردد الناس فيها الأكاذيب ليل نهار ليست بالضرورة مجتمعات مكتئبة ولا مأزومة ولا تقف على حافة الغضب والثورة ولا تحلم بالتحرر والانعتاق والدخول فى منظومة المجتمعات الراقية التى يستطيع المرء فيها أن يعيش وينتج ويشارك فى مستقبل وطنه بجدية وفاعلية. التجربة دلت على أن هناك مجتمعات كذابة وسعيدة فى الوقت نفسه، وأهلها لا يجدون غضاضة فى ترديد وعيش الأكاذيب فى البيت والنادى والمدرسة والصحيفة. صحيح أن هناك مجتمعات كذابة وتعيسة، لكن إلى جانبها توجد مجتمعات تمارس الكذب بسعادة وراحة بال، وأهلها يكتفون بالحياة المرفهة الخالية من التفكير والتى تقترب من حياة القطط السيامى فى بيوت المليونيرات، ورغم انتقادنا لهذا النوع من الحياة وسخريتنا منها، فإن ملايين البشر على استعداد للتنازل عن إنسانيتهم مقابل الحصول على بعضٍ منها!.