بقلم - أسامة غريب
تثير الحرب الجارية الآن فى أوكرانيا مشاعر وذكريات خاصة عندى لدى ترديد أسماء مدن مثل لفيف وماريوبول وكييف. مثل هذه المدن وغيرها فى أوروبا الشرقية لى بها ذكريات قديمة، وعندما أستعيد زياراتى لبعض دول أوروبا الشرقية فى زمن الشيوعية يجرفنى الحنين لتلك الأيام.. ليس بسبب حنينى للشيوعية وإنما لأن مدنا مثل وارسو وبراج وبرلين وزغرب وبراتسلافا كانت نفس ما هى عليه الآن من نظافة وبهاء وثراء تاريخى وعظمة معمارية، لكن بدون مولات أو أسواق أو منافذ استهلاكية مما يستحوذ على الإنسان فى زياراته لبلاد العالم ويسلبه وقته وانتباهه وماله. فى زيارات زمان كنت أشعر بصفاء غريب وتجرد وميل نحو التفكير الفلسفى، وكانت تطول الانطلاقات فى الشوارع وعلى ضفاف الأنهار وفى الغابات على أطراف المدن.. لم يكن هناك أوجه لصرف المال.. المال الذى نراه عبئا يتعين التخلص منه فى أى رحلة للخارج، بعدما أصبحنا نقيس مدى استمتاعنا بالرحلة بكم الفلوس الذى أنفقناه!.. لهذا كانت الأفكار تتدفق وتأتى صافية، والشاطر هو من كان يغتنمها ويصنع منها فنا وأدبا وشعرا.
ربما يشوب هذه النظرة قدر من الأنانية لأننى لم أكن من مواطنى هذه البلاد ولم أقاسِ ما قاسوه، ومع ذلك فلم أكن جاهلا بقسوة النظم الاستبدادية الحاكمة لتلك البلاد، ولا بالقبضة الأمنية الحديدية الممسكة بأعناق الناس، ولا بالغضب الذى يعتمل فى النفوس هناك بسبب الحرمان من المنتجات الاستهلاكية.. تلك التى كانت الدعاية الغربية تمعن فى الإكثار منها، والتى كانت تثير حسرة الناس فى مدن أوروبا الشرقية وتصيبهم باليأس من قلة بختهم فى الحياة!. ومع هذا كنت أغبط الناس هناك على أشياء عديدة، منها أننى أستطيع تناول وجبة من الخضروات والأرز واللحم والفواكه بقروش قليلة، ومنها اهتمام الدولة بالرياضة ووفرة المساحات الخضراء الفسيحة، ووجود التعليم والعلاج المجانى للجميع، فضلا عن المسارح والأوبرا والباليه.
كانت الدولة تقدم الاحتياجات الأساسية للإنسان وبأكثر مما يحلم به الفقراء فى بروكلين وهارلم فى أمريكا.. لكنها حرمتهم من عظمة وجنون الحلم الأمريكى.. الحلم بأن كل منهم يستطيع أن يصبح فى يوم من الأيام مليونيرا، سواء بالاجتهاد أو بضربة حظ، هذا فضلا عن أن افتقاد الحرية، حتى لو كانت مجرد حرية النباح والصراخ من شأنه أن يعجّل بموت الأرواح ويجعل الحياة تفقد معناها.
ومع هذا فإننى عندما أزور هذه المدن فى الوقت الحالى وأرى ما فعلت بها العولمة وكيف أنها تحولت بمحالها ومولاتها ومطاعمها إلى نسخ رديئة من مدن أوروبا الغربية أشعر بحنين لتلك الأيام عندما كانت أحلام الناس بسيطة واحتياجاتهم لا تذكر وعلاقاتهم غير معقدة، ومدنهم داعية لانطلاق الخيال بلا حدود. زمان كان الناس هناك يائسين، والآن زال اليأس لكن حل محله القلق وعدم اليقين. ولعل كراهية الناس فى هذه البلاد للاتحاد السوفييتى ووريثته روسيا عائد إلى الغضب الكامن فى النفوس من أولئك الذين كانوا قائمين على تحقيق حلم جميل، فسلكوا أبشع الطرق وانتهجوا الوحشية والتزوير والنفاق والكذب سبيلا لتحقيق الجنة على الأرض!.