بقلم - أسامة غريب
عندما أقرأ المقالات السياسية التى يكتبها بعض المسؤولين العرب السابقين الذين عملوا فترات من حياتهم فى وزارات الخارجية أو فى العمل الدبلوماسى تنتابنى دهشة لا تقل عن دهشتى لدى مطالعة السير الذاتية التى يكتبها المسؤول العربى السابق بعد أن يترك الوظيفة ويجلس فى البيت متأملا حياته، ثم يأخذ فى سطر فصولا من هذه الحياة العملية وما صادفه فيها من مواقف وأحداث. فى الحالتين أشعر بأن المسؤول العربى السابق ليس أقدر الناس على التحليل السياسى، وهو يكتب لنا عن الحرب فى أوكرانيا أو عن مشكلات حزب المحافظين فى بريطانيا أو عن ورطة ترامب والاتهامات التى يواجهها أمام القضاء أو عن الانتخابات التركية ودلالات فوز أردوغان أو عن الوضع المتأزم فى كوسوفو أو عن تحرش البحرية الأمريكية بالصين فى بحر الصين الجنوبى أو عن الهدنة الهشة بين أرمينيا وأذربيجان أو عن تحليل للوضع الشائك فى السودان بين البرهان وحميدتى.
كل هذه موضوعات نقرأ فيها عشرات المقالات كل يوم، ومع ذلك فأضعف تحليل أو أكثره سطحية فى الغالب هو الذى يتصدى له من يسمون أنفسهم خبراء سياسيين عركوا الحياة السياسية وخدموا فى مناطق الصراع، وبالتالى يفهمون عنها أكثر من غيرهم. أعتقد أن السبب فى شعورى هذا يعود إلى إدراكى أن الكتابة تلزمها أدوات تختلف عن أدوات الوظيفة، وأنه من الممكن أن يكون الموظف على كفاءة وقدرة تفوق قدرته إذا ما أمسك بالقلم وشرع فى تقديم مقال للقراء. وحتى فى السير الذاتية العربية التى يحررها «كاتب شبح» فإن غياب القدرة على التحدث بصراحة وسرد الوقائع على حقيقتها يضعف كثيرا هذه السير ويسحب منها الكثير من قيمتها.
نفس هذا أشعر به عند مطالعتى لمعلقى ومحللى كرة القدم فى القنوات الرياضية المختلفة، فلا يكفى أن يكون المرء قد لعب كرة القدم وصار فيها نجما كبيرا حتى يكون أكثر قدرة على التعليق على المباريات وتقديم الوصف التفصيلى لها أو تحليل المباراة بعد انتهائها فى الاستوديو، فكرة القدم ليست كهنوتا يعرف أسراره اللاعبون فقط، وإنما يستطيع المتفرج العادى أن يعرف عن الكرة كل شىء، والتعليق والتحليل تلزمه قدرات مختلفة عن قدرات لاعب الكرة، ومن يتصدى للمهمتين تلزمه إمكانات لغوية وثقافة كبيرة وقدرة على التعبير والتنويع وتلوين الصوت.. لا يكفى الصراخ والحزق وتهييج الجماهير حتى يكون المعلق متميزا، ولعل الحديث الزاعق الذى لا يترك لحظة صمت للمشاهد دليل على فشل المعلق وغياب أدوات التعليق عنه من ثقافة وفكر وعقل واعٍ رزين، فكثيرا ما تكون المباراة هادئة، بينما المعلق العربى ملتهب وعروقه نافرة من الانفعال، وهذا فى حقيقة الأمر يربك المتفرج الذى لا يعرف هل يصدق ما تراه عيناه أم يصدق ما تسمعه أذناه من تعليق!.
الكتابة السياسية تحتاج أدوات، أهمها الموهبة، وكذلك التعليق والتحليل الرياضى، أما الموظف السابق واللاعب السابق فقد لا يكون أى منهما هو الخباز المناسب الذى نعطيه العيش!.