بقلم - أسامة غريب
كانت الحرب الهجائية التى دارت رحاها شعرًا بين جرير والفرزدق قد وصلت إلى حدود مؤلمة استحال بعدها الصلح أو حتى الهدنة بين الطرفين. ورغم أن الشاعرين ينتهى نسبهما إلى مالك بن حنظلة، فإن أسرة جرير كانت أقل أسر بنى تميم شأنًا وأهونهم ديارًا، وهو الأمر الذى أغرى الفرزدق بأن يُطيل فى معايرة غريمه بأصله غير الرفيع وأهله الذين لا ينتسبون إلى السادة وعلية القوم.
يقول الفرزدق مستعرضًا العظماء والسادات من بنى قومه: إن الذى سمك السماءَ بنى لنا.. بيتًا دعائمُه أعز وأطولُ. بيتٌ بناه لنا المليك وما بنى.. حَكَم السماء فإنه لا ينقلُ. بيت زرارة محتبٍ بفنائه.. ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ.
الفرزدق هنا يتيه على جرير بأصله الكريم ونسبه العالى فى مقابل ضعة أهل جرير وهوانهم، وللتدليل على المكانة الرفيعة فإن الفرزدق يسوق نفرًا من أكابر القوم وهم زرارة ومجاشع ونهشل، وكل منهم محتبٍ بفناء البيت.. و«الاحتباء» فى اللغة هو ربط الرجلين عند الجلوس بالحبال أو بالعمائم المفرودة، وهى جلسة تحقق لصاحبها الاستكنياص لدرجة الاسترخاء والتفشيخ! وما زال أسياد القوم ببعض القبائل العربية يجلسونها إلى اليوم تمييزا لهم عن جلسائهم من الضيوف والعامة الذين يحضرون مجالس الكبار.
لا أرى لماذا حين طافت هذه القصيدة ببالى من غير مناسبة وجدتنى مستغربًا أشد الاستغراب من فكرة الزهو بالسيد زرارة وإخوانه، إذ إن الشخص الطبيعى ليجزع عند سماع أسماء من هذا النوع، فهى أقرب لأسماء تشكيل عصابى أو فريق من الهجامين وقُطاع الطرق.. صحيح أن العربى القديم كان يتفاخر بالغباوة والجهالة وضيق الصدر واليد الباطشة، ويسخر من الوداعة والمسالمة وحُسن الجوار، إلا أن الأمر لا يصل للزهو بأن البيت به مثل هذه الأشكال!.
وربما تكون هذه القصيدة قد دفعتنى للتعاطف مع جرير فى معركته مثلما تعاطفت مع فؤاد المهندس زمان حين عيّرته شويكار بأنها من عائلة البيرقدار كاف بينما كان هو رجلًا مسكينًا مثلنا واسمه أيوب جاد الحق.
وقد عادت بى الذاكرة إلى يوم ذهبت فيه مع السمسار فى إحدى البلاد العربية لمعاينة شقة أردت استئجارها. كانت الشقة مناسبة، لكن المشكلة أن باب الشقة المقابلة قد وضعت عليه لافتة تقول: شمارق الأنتوفى المحامى. لقد فزعت من اسم الرجل الذى سأسكن إلى جواره، وتساءلت عن أسماء زبائن هذا المحامى من القتلة واللصوص إذا كان هو نفسه اسمه شمارق، وهو فى رأيى اسم يليق بعفريت من الجن ولا يصلح لآدمى.
نعود إلى عائلة الفرزدق ونقرر أن أى أحد يمتلك عقلًا سليمًا لن يسمح لأطفاله بأن يلعبوا بجوار فناء بيت يجلس فيه منجعصًا رجال من عينة مجاشع ونهشل.. وغير مسموح فى هذا الصدد أن يتطوع أحد ليقول لى إن هذه كانت أسماء طبيعية فى ذلك الزمان، لأننى أعرف أن الناس الطيبين حينئذ كانت أسماؤهم على شاكلة محمد وهشام وحسن وعمر وخالد وعلى وإبراهيم، أما زرارة وأصحابه فهم مجرمون لا يجوز الزهو بهم!.
ارسل تصحيحاً رأيأخبار