بقلم أسامة غريب
زمان في النمسا، وكنت قد ذهبت إليها للعمل في الإجازة الصيفية، قابلت أحد الرفاق أثناء بحثى عن كابينة تليفون لعمل مكالمة دولية أطمئن فيها على الأهل بمصر. أخبرنى هذا الشخص بأن لديه طريقة مبتكرة لإجراء المكالمات الدولية دون دفع فلوس. عندما أبديت دهشتى، صارحنى بأنه على استعداد أن يبيعنى سره مقابل أمرين: الأول أن يحصل منى على مبلغ مائة شلن نمساوى، والثانى أن أقسم ألا أشيع السر. وافقت متشككًا، فطلب منى أن أنتظره ريثما يذهب إلى البيت ويعود سريعًا. عاد وفى يده كيس يخفى بداخله شيئًا، ثم أخذنى إلى مكان بعيد عند آخر خط الترام. توقف بجانب كابينة تليفون معينة ثم نظر يمينًا ويسارًا وفتح الكيس وأخرج منه ولاعة معدنية مما يُستخدم في إشعال البوتاجاز بدلًا من الكبريت. اقترب من الشاشة التي توضح المبلغ الذي يودعه الزبون الراغب في المكالمة ثم سدد إلى الشاشة دفعة من طلقات الولاعة. كرر هذا الأمر مرة بعد مرة، ولدهشتى الشديدة فوجئت بأن الشاشة قد تأثرت بالشرارات المنطلقة نحوها وبدأ العداد يشير إلى وجود مبالغ مالية!.. نظرت حولى في خوف، إذ إن ما حدث أمامى الآن يشكل جريمة.. لقد اضطرب العداد وتأثر بشرارات الولاعة مما جعله يبدو ممتلئًا بالمال دون أن نكون قد وضعنا أي عملات بالماكينة!. طلب منى أن أمليه الرقم وعندما فعلت ناولنى السماعة فأجريت المكالمة وتحدثت إلى أسرتى، وبعدها انتظرته بعيدًا على الرصيف وهو يجرى مكالمات بأهله وأصحابه وجيرانه وكل من يخطر على باله ممن لديهم تليفون. صارحنى بأنه عرف هذه الحيلة من شاب يوغوسلافى ممن تمتلئ بهم مدينة فيينا وأعاد علىَّ التأكيد بوجوب حفظ السر حتى لا تفسد المسألة ويفقد الاكتشاف قيمته. سألته إن كانت كل كبائن التليفون يمكن أن تمتلئ بالمال الافتراضى إذا ما سددنا نحوها ولاعة البوتاجاز، فنفى هذا الاحتمال، وأشار إلى أن هذه الكابينة فقط هي التي بها خلل لا يفهم كُنهه، وأن هذا الخلل هو الذي جعلها رقيقة وحنونة على المغتربين!. منحته المائة شلن التي طلبها وأقسمت على حفظ السر ثم تركته وانصرفت.
بعد عدة أيام، راودتنى نفسى أن أعيد الكَرّة وأذهب لإجراء مكالمة. ذهبت إلى أكثر من سوبر ماركت ومحل لبيع الأدوات المنزلية حتى عثرت على الولاعة المناسبة فاشتريتها ومضيت بالترام نحو المكان. عندما اقتربت من الكابينة وجدت طابورًا طويلًا يقف أفراده في انتظار الدور لإجراء مكالمة، ولاحظت أن كل واحد من الواقفين يمسك في يده كيسًا أدركت بالبداهة أنه يحوى الولاعة السحرية التي تتصل بكل بلاد العالم. ضم الطابور خليطًا متنوعًا من البشر، جمعت بينهم الرغبة في إجراء مكالمات بلوشى. لم أتمالك نفسى من الضحك لأن السر فشا وعرفته المدينة كلها، وتوقعت أن البوليس سرعان ما سيلاحظ الموقف ويفهم الحكاية، فاستدرت للخلف وألقيت أداة الجريمة التي في يدى في أقرب سلة مهملات، وأصبحت بعدها أكتفى بكتابة الرسائل البريدية للأهل عوضًا عن المكالمات!.