أسامة غريب
كتبت ذات مرة على «الفيس بوك»: «أنا لا أشعر بالوحدة، أشعر بما هو أقسى وأمرّ. الوحدة يكفى لدرئها العثور على رفيق، لكن الوَحشة تحتاج لتغيير العالم».
بعد ذلك تلقيت رسالة من كاتب عربى كبير يُثنى على ما كتبت ويخبرنى بأنه يتابع ما أكتب من زمن، وها قد جاءت الفرصة ليعبر لى عن إعجابه. ظل الرجل يسبغ على شخصى أوصافاً خجلتُ من استمراره فى تكرارها فى رسالته. شعرت بالودّ نحوه فأرسلت له رسالة حملت الشكر والامتنان. بعد يومين دخلت على صفحتى على «الفيس بوك» وكتبت «بوست» جديدا قلت فيه: «إذا أردت أن تبيض، روح بيض بعيد».. كان هذا ما كتبت لأفاجأ برسالة غاضبة من نفس الأديب يبدى فيها صدمته وحسرته على الكاتب الذى ظنّه وقوراً رزيناً ومصدراً للحكمة، فإذا به مهرجًا يستخف بالكلمة وأثرها ويكتب للناس ما يشغلهم بدلاً من أن يكون مصدر إلهام للحق والخير والجمال. لا أكتمكم أننى ظللت أضحك لعدة أيام متصلة.. كنت أنسى الرجل وبعد قليل أتذكره فأنفجر من جديد فى الضحك. يبدو أننى صدمته من حيث لم أقصد. لقد ظنّ حضرته أنه عثر على أفلاطون، وتوقع منى أن أغذى عنده هذا الظن كل يوم بكتابات من النوع الذى أثار إعجابه، فإذا به يكتشف أنّ من ظنه فيلسوفاً حكيماً ليس أكثر من محمود شكوكو متخفٍ ليخدع القراء!
بعد أن هدأ الضحك بدأت أنظر للأمر من ناحية أخرى.. هذا الرجل يبدو أنه محبط من مستوى الكتابة فى هذا الزمن، ويبدو أن ما يلقاه فى طريقه لا يروقه كثيراً، ومن الممكن أنّ رأسه ينطوى على نموذج للكتابة الجيدة يتمسك به ولا يحيد عنه، فلما وجدنى أكتب ما يشبه نموذجه ومثاله فرح بصورة استثنائية عبّرت عن نفسها على شكل الرسالة الطويلة المليئة بالمحبة التى أرسلها لى.. هذا كله جيد ومشاعره الطيبة محل تقدير من جانبى، وحتى صدمته التى أضحكتنى لاقت بعد ذلك احتراماً وتقديراً لدوافعها.. يمكننى أن أضع نفسى مكانه، بل يمكننى أن ألمح دموعه وهو يلعن هذا العالم التافه، لكن رغم كل تعاطفى، فإننى أرى أن شيئاً مهماً قد غاب عنه.. غاب عنه أننى أيضاً إنسان، له فى هذا العالم حقوق، أبسطها أن يعبّر عن نفسه بالكيفية التى يراها، وأن يكتب ما يريده وما يحسه. أنا لست مسؤولاً عن توقعاته منى رغم حُسن نواياه، ولا أظننى أتفق معه فى أن جنساً أو لوناً معيناً من الأدب أو من الكتابة له اليد العليا، فقد يكون للكاتب منابع متعددة تمدّه بما يقدمه، وقد يكون مخلصاً لها جميعاً ومرتشفاً منها كلها، ولديه قراء ومتابعون تعجبهم ألوان لا تعجب غيرهم. هذا فضلاً عن أن «الفيس بوك» و«تويتر» وباقى وسائط التواصل الاجتماعى تقدم لك من الشخص لمحة بسيطة، أما بقيته ففى أماكن أخرى كالكتب مثلاً! الحق فى الاختلاف أساسى، وأظنه يعرف هذا بالتأكيد، لكن جرفه حماسه وانحيازه لما يحب. ثم ما المشكلة فى أن أطلب ممن يريد أن يبيض أن يتحرك ويذهب ليبيض فى مكان آخر بعيداً عنى، أم تراه كان يحب أن يبيض الرجل إلى جوارى؟