بقلم أسامة غريب
بفضل اليوتيوب فإن كنوزاً إذاعية وتليفزيونية أصبحت فى المتناول بعد أن كانت صعبة المنال. استمعت إلى حوار إذاعى قديم دار بين عبدالحليم حافظ والموسيقار محمد عبدالوهاب، ومن الواضح أنه دار فى فترة أوائل السبعينيات. ترك المذيع الفرصة لعبدالحليم ليحاور عبدالوهاب دون تدخل منه فسأل حليم ضيفه عن أحب الأغانى إلى قلبه.. فأجاب عبدالوهاب: أغنية «عندما يأتى المساء» للشاعر محمود أبوالوفا. قال عبدالوهاب هذا ثم استطرد فى مدح الشاعر الذى كان يمر بظروف صحية حرجة فى ذلك الوقت، وقال إن ظروفه المريرة قد طبعت فنه بطابع مميز.. وهنا انبرى عبدالحليم متسائلاً: هل المرارة عند الفنان يمكن أن تنتج فناً جيداً؟. أجاب عبدالوهاب: ممكن طبعاً، فقال حليم: أعتقد أنها تنتج حقداً، فرد عبدالوهاب: بالعكس.. من الجائز أن تولّد فلسفة وهذا يتوقف على نفسية الفنان. هنا عاود حليم السؤال: لكنها يمكن أن تولد حقداً على المجتمع؟، فكرر عبدالوهاب أن الأمر مرهون بمحتوى الفنان. ويبدو أن فكرة الحقد على المجتمع من قِبل بعض الفنانين كانت متسلطة على ذهن عبدالحليم فلم يشأ أن يترك هذه النقطة وينتقل لغيرها فألحّ على عبدالوهاب بالسؤال: ماذا نفعل لو كانت لدينا موهبة جيدة لكنها منفصلة عن المجتمع وتحمل فى داخلها حقداً عليه.. ألا يتعين أن نساعدها لتندمج فى المجتمع وتتوقف عن الحقد؟، وهنا أبدى عبدالوهاب دهشة من فكرة الحقد التى يلح عليها عبدالحليم وقال له: إن الانفصال عن المجتمع لا يعنى الحقد عليه، وفكرة الانفصال فى حد ذاتها هى موقف فنى.. لكن للغرابة الشديدة ظلّ حليم يدور حول نفس النقطة فى إصرار ممل.. وفجأة أفصح عن مكنون نفسه عندما سأل عبدالوهاب: ما رأيك فى الشيخ إمام والشاعر اللى معاه؟!.. لم يقل حليم الشيخ إمام ونجم لكن قال: «الشيخ إمام والشاعر اللى معاه»، وهنا قد يتصور المستمع أن عبدالحليم لا يعرف اسم الشاعر وهذا جائز.. لكن المؤسف أن هذا غير حقيقى وقد عرفنا بعد وفاة حليم أن الشاعر أحمد فؤاد نجم كان زميلاً له فى الطفولة فى ملجأ الأيتام الذى جمعهما فى مدينة الزقازيق، وهى الحقيقة التى حرص حليم على إخفائها.. يعنى عبدالحليم كان يعرفه جيداً، لكنه تصنّع الجهل به، كما لم يذكر تجربة نجم وإمام إلا فى سياق الفكرة الشاذة عن الحقد الذى قد يملأ نفس الفنان ويجعله يخالف المجتمع.
فى ذلك الوقت لم يكن متاحاً لنجم وإمام أن يردا على عبدالحليم من خلال الإذاعة ولا الصحافة بسبب الحصار المضروب حولهما، وبسبب السجن الذى تعوّدا المكوث فيه على يد الزعيمين اللذين تغنى بعشقهما عبدالحليم حافظ، ولم يكن باستطاعتهما أن يقولا له: إن التطبيل للزعيم لا يعنى الالتصاق بالمجتمع وخلو النفس من الحقد، كما أن الغناء للناس وهجاء الحكام غلاظ القلوب لا يعدان انفصالاً عن المجتمع، لكنه موقف وطنى عظيم لا يقدر عليه الذين أدمنوا الجلوس على حجر السلطة وغنوا للأمراء والسلاطين.
رحم الله الجميع، وأثاب الشاعر العظيم أحمد فؤاد نجم الذى لم يتنكر لأصله ولم يجلس إلا على حِجْر مصر!.