بقلم أسامة غريب
يثير غرق المركب الذى كان يحمل المهاجرين قبالة سواحل مدينة رشيد سؤالاً ينبغى أن نواجه أنفسنا به: هل تعايشنا وتآلفنا وأصبح عادياً بالنسبة لنا أن حياتنا أصبحت عبارة عن مسلسل طويل من النكبات والفواجع، ينسينا جديدها القديم منها؟.
لقد ركب هؤلاء التعساء سفينة الندامة، لأنهم فقدوا الأمل فى الحياة العادية فى مصر، وأصبح البقاء بالنسبة لهم يساوى الجحيم، ولعل هذا ما جعلهم يستهينون بالأخطار ويركبون سفينة يعلمون أن فرص وصولها للبر الآخر محدودة للغاية. الحكايات التى يرويها الناجون من الغرق تدمى القلب، فهناك من فقد زوجته وابنه، وهناك من فقد أباه وأخاه، وهناك من فقد أعز أصدقائه. فى السابق، كان عائل الأسرة وحده يسافر وتبقى الزوجة ترعى الأطفال. الآن لم يعد هذا الخيار موجوداً فالأسرة بكاملها لم تعد تحتمل البقاء فى وطن العار هذا الذى يقبضون فيه على الناجين من الغرق ويربطونهم بالسلاسل وهم لم يفيقوا بعد من فقد أعز من لديهم.
إننا نستطيع أن نؤرخ لحياتنا بتاريخ الكوارث التى كان يمكن تفاديها بقليل من العناية والاهتمام بأرواح الناس.. إننا لا نزال نذكر غرق السفينة السلام 98 ووفاة 1034 من ركابها بينما كان حسنى مبارك يغط فى النوم، ولم تثنه الفاجعة عن الذهاب للاستاد فى نفس اليوم لمتابعة مباراة لكرة القدم بصحبة الفاميليا السعيدة، كما أننا لا ننسى غرق السفينة سالم إكسبرس والسفينة السلام 95 وسيول قرية «درنكة» وسقوط عمارة هليوبوليس وعمارة الحاجة كاملة وعمارة عباس العقاد.. ولا يمكننا أن ننسى كارثة قصر ثقافة بنى سويف التى راح ضحيتها 40 فنانا ماتوا حرقا داخل فرن يسمونه مسرحاً، ومن قبلهم مات 400 من ركاب قطار ظل يسير مشتعلا لمدة نصف ساعة، وركابه يصرخون ولحمهم المشوى يتصاعد شياطه حتى أراحهم الموت.
إن المأساة التى تحمل حزناً لا قرار له أن الناس عندنا يظلون على قيد الحياة فقط بفضل الفساد بعد أن سُدت فى وجوههم كل الطرق المؤدية إلى لقمة العيش الشريفة التى تكفل لهم الستر، ولقد أصبح الناس فى حالة تصالح مع الانحراف والفساد لدرجة أنهم يتعاملون مع الرشوة بودٍّ بالغ، باعتبارها السبيل الوحيد للعيش، صحيح هم يعلمون أن الفساد قد سلب منهم الكثير، لكنهم يحفظون له الجميل لأنه أبقى على حياتهم وجعل استمرارها مرتبطا باستمراره فى رابطة جهنمية من صنع الشيطان. هناك من قبلوا هذه الصيغة ورضوا أن يعيشوا عيشة البهائم تلك الخالية من العزة والكرامة، لكن فى المقابل هناك من رفض الحياة بهذا الشكل وحاول أن يغيرها بشتى الوسائل، فلما أعجزته الحيل، لم يجد سوى أن يفر على ظهر مركب متهالك طالباً النجاة. إن ركاب هذه المراكب التى تسميها الصحف مراكب الهجرة غير الشرعية هم من النوع النبيل من البشر، لأنهم كانوا يستطيعون البقاء مع أكل اللقمة المغموسة بِذُل السرقة أو الغش أو الرشوة، لكنهم قفزوا إلى هذه المراكب لأنهم أرادوا الحياة النظيفة. لقد أصبح رزق المواطن المصرى مسموماً بفعل الرشوة والسرقة، والبديل المتاح بكل أسف ليس الرزق الحلال.. لكنه الموت!.