بقلم أسامة غريب
ركبت طائرة تابعة لشركة أوروبية من النوع المسمى «منخفض التكاليف»، وهى شركات تعمل بشكل اقتصادى صارم، وتقدم أقل خدمات ممكنة، كما تستعين بالحد الأدنى من العمالة. هذه الشركة ليست لها مكاتب لبيع التذاكر، وإنما تعتمد كلية على البيع من خلال النت، وهى وإن كانت تبيع التذكرة رخيصة، إلا أنها لا تتورع عن نهش الراكب بتحميله ثمن نقل حقيبته، وكأنه من المفروض أن يسافر بلا متاع!. ومن أجل جعل كل شىء «أون لاين» دون الاحتياج لموظفين، فإن الشركة تخفض فى رسوم نقل الحقيبة إذا دفعها الراكب على النت، كما تطلب من مشترى التذكرة عمل كارت الصعود بنفسه باتِّباع خطوات الموقع، ثم طبعه أو تصويره بالموبايل، وعليه رقم المقعد، ولا يتبقى سوى أن يقوم بتسليمهم الشنطة فى المطار.
على الطائرة كان من الطبيعى أنهم لا يقدمون وجبات ولا مشروبات، لكن راكباً يجلس بجوارى ضغط زر استدعاء المضيفة، وطلب منها كوب ماء. اعتذرت قائلة إن لديها زجاجات ماء وعصائر بفلوس.. وهنا هاج الرجل وماج وعلا صوته بالانتقاد للشركة البخيلة التى لا تسقى ركابها الماء، لكن تبيع الشيبسى والبسكويت والعصير كما لو كانت محل مرطبات لا شركة طيران. حاولت المضيفة أن تُفهمه أن هذه ليست شركة طيران بالمعنى القديم، لكنها شركة نقل فقط تنقل الراكب من نقطة لنقطة، لكنه ظل غاضباً. بعد قليل مرت المضيفات بالتروللى وعليه البضاعة، وانهمكن فى بيع المرطبات لمَن يرغب من الركاب. نظرت نحو جارى، فرأيته يتتبعهن فى حنق، ثم لم يلبث أن قال: «هؤلاء الناس مجانين.. إننى قمت بإحصاء ما باعوه على الرحلة، فوجدت أن مكسبهم لن يتعدى الخمسين يورو بأى حال من الأحوال، فهل هذا المبلغ يستحق جلب الماء والبسكويت وتشغيل العمال فى تحميله داخل الطائرة، ثم تأخذ المضيفات فى الذهاب والعودة طوال الرحلة من أجل بيع عشرين زجاجة ماء وعشرة أكياس شيبسى؟!»، ثم أضاف: «ما داموا لا يقدمون وجبات، فقد كان من الأكرم لهم أن يقدموا السناك بالمجان أو يمتنعوا تماماً عن تقديم أى شىء، وبهذا يوفرون على أنفسهم قلة القيمة!».
نظرت إليه مبتسماً وأنا أستأذنه فى أن أعقب على كلامه، فنظر إلىَّ متشككاً، وقال: «ماذا لديك؟» قلت له: «صحيح أن الشركة لم تكسب من بيع الشيبسى على الطائرة كما ذكرت، ولكنها قدمت خدمة للركاب دون أن تتكلف فلوسا، وهذا هو الأصل فى فلسفة عمل هذه الشركات، ألّا تتحمل مصروفات لا داعى لها، ولو أتى من وراء بيع السلع على الطائرة أى مبلغ مهما تضاءل فهو خير». هز الرجل رأسه مستنكراً، ونظر إلى السقف، فأكملت: «أما عن العمال الذين قاموا برفع صندوق الماء وكرتونة البسكويت إلى الطائرة فأجرتهم مدفوعة فى كل الأحوال، وهم أنفسهم الذين قاموا بنقل الحقائب من على السير، ثم تحميلها داخل مخازن العفش، والأمر نفسه ينطبق على المضيفات، فهن يحصلن على مرتبات شهرية من الشركة، ومن الخير أن تتم الاستفادة منهن فى بيع السلع داخل الطائرة بدلاً من أن يجلسن مثل الركاب طوال الرحلة!». بعد أن ختمت كلامى سألته: «هل وضحت الصورة؟» أشاح عنى قائلاً: «يبدو أنك مجنون مثلهم!».