بقلم أسامة غريب
عندما زرت أوروبا أثناء الإجازات الصيفية فى سنوات الجامعة كنت أتوقع أن تكون الفجوة بيننا وبينهم هائلة، وكنت أتصور أن مليون سنة ضوئية تفصلنا عنهم.. على الأقل فى مشروعات البنية الأساسية التى تعطلت فى مصر بفعل الحروب المتصلة. لكن أدهشنى عند الإقامة فى النمسا والتنقل بين عدة شقق فى مختلف أحياء مدينة فيينا أن جزءاً كبيراً من المدينة الأوروبية العريقة لا تعرف مساكنه الحمامات والدُش!.. إنما يعتمد الناس على الحمامات العامة التى تستلزم أن ينزل المرء من بيته ومعه حقيبة بها الليفة والصابونة والغيارات. وأستطيع أن أؤكد أن تكلفة الاستحمام منعت كثيرين من أن يلامس الماء والصابون أجسادهم لفترات طويلة.. وقد كنت أتغلب على هذه المشكلة بالتسلل خلسة إلى الفندق المجاور ثم الصعود إلى أى طابق حيث توجد حمامات عديدة لخدمة النزلاء خارج الغرف!. لم يقتصر الأمر على هذا فقط وإنما خلت معظم المساكن فى الأحياء القديمة من وجود دورة مياه بمرحاض داخل الشقة، ولكن كان يوجد تواليت عام بكل طابق يخدم كل شقق الدور!. ومازلت أذكر كم عانيت عند كل صباح من الطابور الذى كان يصطف ويقف به السكان، رجالاً ونساء، كل فى انتظار دوره. ولم تكن هذه المساكن كما قد يتصور البعض مخصصة للفقراء أو للطلبة الذين يعملون ببيع الجرائد مثلى، وإنما كانت الطبقة الوسطى من الموظفين تسكن معنا ويزاحمنا أفرادها فى طابور الكنيف الصباحى!. كانت هذه واحدة من صدمات الخروج الأولى خارج الوطن، ثم بعد ذلك اعتدت أشياء أخرى لا تقل غرابة.
وقتها، لم أستطع أن أمنع نفسى من عقد مقارنة بين القاهرة وفيينا.. كان هذا قبل الزمن الأسود لمبارك، حيث أصبح كل شىء فى زمنه عشوائياً خرباً. لكن زمان كانت البيوت بأحياء القاهرة الشعبية مثل الجمالية وباب الشعرية والدرب الأحمر نظيفة، وتحوى كل منها دورة مياه بحمام مهما تواضع نصيب سكانها من الدخل، وقد أخبرنى جيل الآباء الذين سكنوا مختلف أحياء القاهرة أنهم لم يعرفوا مساكن بدون دورات مياه وحمامات أبداً، ذلك أن شبكات المياه النقية والصرف الصحى كانت قد دخلت أحياء العاصمة منذ مطلع القرن العشرين.
ولا يعنى هذا بالطبع أننا كنا نتفوق على النمسا فى كل شىء، فقد كانت مدنها منظمة وأنيقة، وكانت تخطو نحو استكمال ما ينقصها بهدوء وثقة، فضلاً عن أن الريف المصرى كان ولا يزال يعانى من المشكلات التى تخلص منها البشر فى كل مكان.. لكن المثال السابق قصدت به أن أوضح أننا لم نكن بالسوء الذى كنا نتخيله عن أنفسنا، وأن المواطن فى مصر كان ينعم بأشياء يحسده عليها مواطنون يعيشون فى قلب أوروبا!.
واليوم لا أستطيع أن أمنع نفسى من التساؤل عن كيف استطاع مبارك وعائلته أن يوقفوا مسيرة التنمية والتحديث فى مصر، وأن ينهبوا مواردها ومعهم أصدقاؤهم من المنحرفين الذين صاروا مليارديرات؟!.
ألا لعنة الله على المجرمين الذين عطلونا كل هذه السنين وعلى من يحبهم ويفتقد إجرامهم ويمنع مساءلتهم ويرعاهم ويحميهم بدلاً من رعاية ضحاياهم!.