بقلم - أسامة غريب
إذا تابعت جماعة من الناس تجلس معًا، ستجدهم فى الغالب يتحدثون جميعًا فى نفس الوقت ولا أحد منهم يستمع إلى أحد!. هم ليسوا مجانين ولا سفهاء، لكنهم محرومون من الكلام، والحياة تفرض عليهم معظم الوقت أن يجلسوا فى حضرة من يتحدث وحده ولا يسمح لهم بالكلام، سواء كان صاحب نفوذ وثراء من النوع الذى يجلس يحيط به حواريون يقومون فى حضرته بحرق البخور والثناء على كل ما يخرج من فمه وكأنه اللؤلؤ المنثور.
وتزداد المشكلة إذا كان الباشا صاحب النفوذ أو حتى المدير فى العمل من الذين تستبد بهم شهوة الكلام بعدما أيقن أن السمّيعة كُثرُ، وحتى لو كان حضرة الكوماندا المهم رجلًا طيبًا غير متجبر وغير مؤذٍ، فإن الجمهور الجالس معه سيتحرج من تصحيح كلامه والاعتراض على آرائه الفارغة، لكن سيجلسون فى حضرته صامتين يستمعون إلى تنظير فى السياسة والفن والثقافة والرياضة.
وربما أن هذا أحد الأسباب الأساسية فى الاكتئاب الذى يصيب كبار الموظفين بعد خروجهم إلى المعاش، ذلك أنهم يفتقدون السمّيعة والصهبجية، وإذا ما أبدوا آراءً فى أى شأن بعدما فقدوا الوظيفة جوبهوا بالاستنكار والتوبيخ وكأنهم لم يكونوا إلى وقت قريب فلاسفة كبارا لهم حكمة أرسطو وبلاغة المتنبى!. ولأن الأنفار الذين يتعرضون طوال الوقت لتجربة الجلوس الصامت المسموح لهم فقط بالنفاق لا يريدون أن يمرضوا ويكتئبوا.
فإنهم ما إن يبتعدوا عن المديرين أصحاب المراكز والباشوات أصحاب النفوذ ويخلو الواحد منهم إلى قرنائه وأصدقائه حتى تنطلق منه نافورة كلام، فى الوقت الذى يفعل فيه الآخرون الأمر نفسه.. كبت وحرمان من الكلام يعبّر عن نفسه فى صورة انفلات ورغى وتنكيت وصخب وهرج يؤديه الجالسون فى نفس الوقت، فلا أحد يسمع أحدًا ولا أحد يصغى أو يعتبر بما يحكيه الآخرون!.
ولقد جلست شخصيًا فى جلسات من هذا النوع مع رفاق كانوا يقضون السهرة على القهوة لعدة ساعات وكلهم يتكلمون فى مواضيع مختلفة فى نفس الوقت دون أن يكون لأحد منهم مستمع واحد!.. يفعلون هذا بعد أن ينصرف المدير الذى كان يجلس معهم منذ قليل، بعد أن احتكر الرغى وحده لساعات قام خلالها بتعليمهم فنون الأكل والشرب والإتيكيت، وأعطاهم محاضرات فى التاريخ والاجتماع والاقتصاد.
وروى لهم عن علاقاته ومغامراته النسائية، وعدّد لهم أنواع وأصناف النساء وكيفية التعامل مع كل نوع.. كل هذا وهو مجرد رجل غلبان بلا خبرة أو دراية أو ثقافة.. وبهذا فإن حياة الناس تنقسم إلى قسمين: وقت طويل يقومون فيه بدور المتلقى، ووقت آخر هو الذى يتحررون فيه ويجلسون بعيدًا عنه، وهو الوقت الذى تنفجر فيه ماسورة الكلام لديهم جميعًا فى نفس الوقت.
والخلاصة؛ أن الحياة تمضى بالناس فى فصول تحفل بالكلام الفارغ وتخلو من الحكمة والتأمل والكلام الموزون.