أسامة غريب
أثناء الدراسة الجامعية كان لنا أستاذ يدرّسنا الشعر والتذوق الأدبى، وكان المدرج فى محاضرته يمتلئ عن آخره، حيث امتلك الرجل أدوات المُحاضِر المتمكن، وكانت له موهبة لافتة فى التدريس وتأليف قلوب الطلبة من حوله. وقد بلغت شعبيته حد أن زملاءنا بالكليات المجاورة، الذين كانوا فى العادة من زبائن الكافيتريا المقيمين قد كُلِفوا بهذا الأستاذ وأصبحوا من دراويشه ومريديه، فكانوا يهجرون الكافيتريا ويأتون إلى مدرجنا عند حضوره ليجلسوا بيننا ويزاحموننا فى محاضرتنا! وبطبيعة الحال لم أكن أختلف عن غيرى من حيث حبى لهذا الأستاذ وشغفى بحضور دروسه والاستماع إليه.
ذات محاضرة كان يتحدث إلينا عن أغراض الشعر العربى القديم، وعندما وصل إلى الحديث عن الرثاء أنشد لنا نماذج مؤثرة من الأشعار التى تعد من عيون الشعر العربى، ثم أخبرنا بأن الشاعر العربى القديم رثى أمه وأباه وأخته وأخاه وابنه وابنته، لكنه لم يسمح لنفسه أبدا أن يرثى زوجته! وأضاف أن العربى كان فى الغالب يُنزل الزوجة منزلة متدنية ويعتبرها بعض متاعه، فكان إذا ماتت له امرأة أحلّ أخرى مكانها على الفور، قائلا: بدّلتُ فرشى! أحدث كلام الأستاذ دهشة، فسرت همهمة فى القاعة وانبرى أحد الطلاب سائلا: هل هذا معقول؟ أليس هناك من الشعراء العرب الجاحدين من رثى زوجة كان يحبها؟ نفى الأستاذ الأمر نفيا قاطعا، وقال إنه يتحدى أن يعثر أحدنا على شىء من هذا!
كنت أعرف بسبب اهتمامى بالشعر أن رثاء الزوجات ليس أمرًا متكررًا عند الشاعر العربى القديم، لكنى كنت أعرف أيضا أن النفى القاطع الذى جزم به الأستاذ غير صحيح فرفعت يدى مستأذنا فى الكلام، فلما أذن لى الأستاذ قلت: إن هناك قصيدة رائعة قرأتها للشاعر جرير رثى فيها زوجته بأبيات من أنقى وأرق ما قيل فى الرثاء. وهنا تحول وجه الأستاذ إلى اللون الأحمر وبدا عليه أنه تفاجأ، ثم سألنى فى تهكم: هل تريد أن تقول إنك تعرف أكثر منى فى هذا الأمر؟ أدهشنى الرد من الأستاذ الذى أحبه وأحترمه وأشعرنى بالارتباك، لكن غُدّة التحدى التى تفرز فى مثل هذه الأحوال ساعدتنى على أن أقول له: عفوا أستاذى أنا لا أطاولك فى هذا الأمر، وبالرغم من هذا فإن الشاعر جرير قد قال فى رثاء زوجته:
لولا الحياء لهاجنى استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولّهت قلبى إذ علتنى كبرةٌ
وذوو التمائم من بنيك صغار
صلى الملائكة الذين تُخيروا
والطيبون عليك والأبرار
لا يلبث القرناءُ أن يتفرقوا
ليل يكر عليهمُ ونهار
ما كدت أنتهى من أبيات جرير حتى صاح الأستاذ وهو يرمى شرره تجاهى: طيب يا فالح.. اقعد. ثم أنهى المحاضرة فى عصبية وانصرف!
لم أفهم سر غضبه وعصبيته فأنا لم أغلط فى شىء.. هو الذى أخذته العزة بالإثم، مع أنه لا يقلل من قدره خفاء هذا الأمر التافه عنه.. لكنها النفس البشرية العجيبة!
وقتها لم أكن قد قرأت بعد عن العلامة الأستاذ محمود شاكر وقصة خلافه الشهير مع الدكتور طه حسين عندما كان يدرس على يديه، وكانت له وقفة مع الدكتور طه حيث كشف المواضع التى اقتبسها طه حسين من بعض المستشرقين ووضعها فى كتاب الشعر الجاهلى منسوبة إلى نفسه! وعندها كان رد الدكتور طه لا يختلف عن رد أستاذى الذى يعلمُ الله أننى لم أقصد إحراجه أبدًا، على العكس كنت أظنه سيفرح بى ويقربنى منه. لم يحتمل محمود شاكر الموقف فترك الجامعة إلى الأبد وهاجر إلى الحجاز لسنوات طويلة. أما أنا فلم أهاجر للحجاز لكنى هاجرت إلى داخل نفسى بعد أن أصبت بشرخ لم تفلح الأيام فى رأبه!
نقلاً عن جريدة "التحرير"