توقيت القاهرة المحلي 10:44:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ونفس وما سوّاها

  مصر اليوم -

ونفس وما سوّاها

أسامة غريب

       أثناء الدراسة الجامعية كان لنا أستاذ يدرّسنا الشعر والتذوق الأدبى، وكان المدرج فى محاضرته يمتلئ عن آخره، حيث امتلك الرجل أدوات المُحاضِر المتمكن، وكانت له موهبة لافتة فى التدريس وتأليف قلوب الطلبة من حوله. وقد بلغت شعبيته حد أن زملاءنا بالكليات المجاورة، الذين كانوا فى العادة من زبائن الكافيتريا المقيمين قد كُلِفوا بهذا الأستاذ وأصبحوا من دراويشه ومريديه، فكانوا يهجرون الكافيتريا ويأتون إلى مدرجنا عند حضوره ليجلسوا بيننا ويزاحموننا فى محاضرتنا! وبطبيعة الحال لم أكن أختلف عن غيرى من حيث حبى لهذا الأستاذ وشغفى بحضور دروسه والاستماع إليه. ذات محاضرة كان يتحدث إلينا عن أغراض الشعر العربى القديم، وعندما وصل إلى الحديث عن الرثاء أنشد لنا نماذج مؤثرة من الأشعار التى تعد من عيون الشعر العربى، ثم أخبرنا بأن الشاعر العربى القديم رثى أمه وأباه وأخته وأخاه وابنه وابنته، لكنه لم يسمح لنفسه أبدا أن يرثى زوجته! وأضاف أن العربى كان فى الغالب يُنزل الزوجة منزلة متدنية ويعتبرها بعض متاعه، فكان إذا ماتت له امرأة أحلّ أخرى مكانها على الفور، قائلا: بدّلتُ فرشى! أحدث كلام الأستاذ دهشة، فسرت همهمة فى القاعة وانبرى أحد الطلاب سائلا: هل هذا معقول؟ أليس هناك من الشعراء العرب الجاحدين من رثى زوجة كان يحبها؟ نفى الأستاذ الأمر نفيا قاطعا، وقال إنه يتحدى أن يعثر أحدنا على شىء من هذا! كنت أعرف بسبب اهتمامى بالشعر أن رثاء الزوجات ليس أمرًا متكررًا عند الشاعر العربى القديم، لكنى كنت أعرف أيضا أن النفى القاطع الذى جزم به الأستاذ غير صحيح فرفعت يدى مستأذنا فى الكلام، فلما أذن لى الأستاذ قلت: إن هناك قصيدة رائعة قرأتها للشاعر جرير رثى فيها زوجته بأبيات من أنقى وأرق ما قيل فى الرثاء. وهنا تحول وجه الأستاذ إلى اللون الأحمر وبدا عليه أنه تفاجأ، ثم سألنى فى تهكم: هل تريد أن تقول إنك تعرف أكثر منى فى هذا الأمر؟ أدهشنى الرد من الأستاذ الذى أحبه وأحترمه وأشعرنى بالارتباك، لكن غُدّة التحدى التى تفرز فى مثل هذه الأحوال ساعدتنى على أن أقول له: عفوا أستاذى أنا لا أطاولك فى هذا الأمر، وبالرغم من هذا فإن الشاعر جرير قد قال فى رثاء زوجته: لولا الحياء لهاجنى استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار ولّهت قلبى إذ علتنى كبرةٌ وذوو التمائم من بنيك صغار صلى الملائكة الذين تُخيروا والطيبون عليك والأبرار لا يلبث القرناءُ أن يتفرقوا ليل يكر عليهمُ ونهار ما كدت أنتهى من أبيات جرير حتى صاح الأستاذ وهو يرمى شرره تجاهى: طيب يا فالح.. اقعد. ثم أنهى المحاضرة فى عصبية وانصرف! لم أفهم سر غضبه وعصبيته فأنا لم أغلط فى شىء.. هو الذى أخذته العزة بالإثم، مع أنه لا يقلل من قدره خفاء هذا الأمر التافه عنه.. لكنها النفس البشرية العجيبة! وقتها لم أكن قد قرأت بعد عن العلامة الأستاذ محمود شاكر وقصة خلافه الشهير مع الدكتور طه حسين عندما كان يدرس على يديه، وكانت له وقفة مع الدكتور طه حيث كشف المواضع التى اقتبسها طه حسين من بعض المستشرقين ووضعها فى كتاب الشعر الجاهلى منسوبة إلى نفسه! وعندها كان رد الدكتور طه لا يختلف عن رد أستاذى الذى يعلمُ الله أننى لم أقصد إحراجه أبدًا، على العكس كنت أظنه سيفرح بى ويقربنى منه. لم يحتمل محمود شاكر الموقف فترك الجامعة إلى الأبد وهاجر إلى الحجاز لسنوات طويلة. أما أنا فلم أهاجر للحجاز لكنى هاجرت إلى داخل نفسى بعد أن أصبت بشرخ لم تفلح الأيام فى رأبه! نقلاً عن جريدة "التحرير"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ونفس وما سوّاها ونفس وما سوّاها



GMT 08:07 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمشق وطهران والحرب الجديدة

GMT 08:06 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«الصراع من أجل سوريا»

GMT 08:05 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غزة. غزة... بقلم «جي بي تي»!.. بقلم «جي بي تي»!

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

... أن تكون مع لا أحد!

GMT 08:02 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غول الترمبية والإعلام الأميركي... مرة أخرى

GMT 08:01 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الصراع في سوريا وحول سوريا

GMT 08:00 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

سوريا واللحظة الحرجة!

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ترمب ــ «بريكس»... وعصر القوى المتوسطة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon