أسامة غريب
لم يكن صلاح جاهين وحده الذى حلم بصناعة كبرى، ملاعب خضرا، تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا فى كل قرية عربية. أنا أيضا عشت هذه الأحلام، وسرحت مع التصورات والأخيلة التى رأيت فيها مصر مكانا جميلا يرعى العدالة والحرية والمساواة. وعششت فى رأسى صورة الوطن الذى يمنح أبناءه الكرامة فيمنحونه الحب والولاء. صحيح أن الأيام تكفلت بإجهاض كل هذه الأحلام عندما اندفع الوطن بعيدا عن سكة الجنة الخصراء ومضى عاقدا العزم على أن يكون فى النهاية مكبّا للنفايات! إلا أننى وطوال زمن تدحرج الوطن من أعلى التل ظللت مقتنعا بأن عشاق هذا الوطن بإمكانهم إبطاء التدحرج، ومن ثم وقفه حتى يأتى الله بقوم خير منا فى جيل آخر ثم لا يكونون أمثالنا!
وكنت أعتقد دائما أن التعليم هو البوابة الرئيسية لصيانة الأمن القومى بمعناه الحقيقى، وأن بإمكانه إن صحَّ أن يهدى للوطن إنسانا عالما ومنتميا فى آن. لهذا فقد كنت أنفر من المدارس الأجنبية التى تدرس كل العلوم بالإنجليزية والفرنسية وتسلخ التلامذة منذ الصغر عن هُويتهم وتُلحِقهم فكريا ووجدانيا بثقافة أوروبية، تمجد الغرب وتراه النموذج والمثل، وتقلل من شأن اللغة العربية والهُويَّة الحضارية للعرب والمسلمين. وكان ماثلا فى ذهنى دائما ما فعله تلامذة المدارس الأجنبية فى مصر عندما قرر عبد الناصر عقب العدوان الثلاثى أن يضع المدارس الفرنسية والإنجليزية تحت إشراف الدولة، فقام التلامذة وأهاليهم والمدرسون بالتهديد بالاعتصام وأمطروا رئاسة الجمهورية برسائل الرفض والاعتراض (كما ورد فى كتاب «مصر ولع فرنسى»، تأليف روبير سوليه)، بما يعنى أن حبهم وولاءهم لأوطان أصحاب المدارس أكبر بكثير مما يحملونه لمصر.
وكانت كتابات ومواقف رجال كبار أمثال الدكتور حامد عمار والأستاذ فهمى هويدى تمنحنى الثقة بصحة ما أعتقد، إذ ما فتئوا يدقون أجراس الخطر محذرين ومنذرين من أن انتشار مدارس اللغات التى تدرس للأطفال المواد التعليمية باللغات الأجنبية منذ الحضانة يشكل خطرا على الهوية، خصوصا بعد أن ازدهر بزنس التعليم واتجه كثير من أصحاب رأس المال لإنشاء مدارس للغات، ثم قاموا باستقدام خواجات من الخارج للتدريس، معظمهم لم يدرّس فى بلده أبدا، المهم أنه خواجة ويعرف القراءة والكتابة حتى لو كان فى بلده يعمل إسكافًا!
ولإثبات أننى لست ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وللتدليل على أن الإيمان بهذه الأفكار ليس موقفا حنجوريا للتصدير الخارجى فى الجلسات مع الأصدقاء أو على صفحات الصحف فقط، فقد فاجأت الأهل والأصدقاء عندما قمت بإلحاق أولادى بمدارس عربى تدرس كل العلوم باللغة العربية ما عدا مادة اللغة الإنجليزية، فاتهمونى بالسفه والجنون واعتبرونى خطرا على أولادى.. لأن الحياة لم تعد تحتمل مثل هذا الهراء المسمى بالهوية أو الانتماء، وأن سوق العمل لم تعد تعترف إلا بخريجى مدارس اللغات، وحاولوا إقناعى بأن أبنائى أنفسهم لن يسامحونى عندما يكبرون على ما فعلته بهم، خصوصا وأنا لا أشكو العوز أو العجز المادى. قلت لهم: أنا تخرجت فى مدارس عربى ولم يمنعنى هذا من تعلم الإنجليزية والفرنسية أفضل من كل خريجى مدارس اللغات، وأنا أريد لأبنائى أن يتعلموا لغات أجنبية لا أن يتعلموا باللغات الأجنبية، والفرق كبير. واجهونى بأننى فعلت هذا فى غفلة من الزمن، وأن الزمن لم يعد غافلا الآن! كانت المعارضة حادة وجارفة حتى إننى بدأت أتساءل بينى وبين نفسى عن صحة ما أعتقده، ولم يؤيدنى فى ما ذهبت إليه سوى صديقى الأديب الدكتور محمد المخزنجى الذى أخبرنى أنه فعل الشىء نفسه وألحق ولديه بالتعليم العربى، لأنه يؤمن أن مدارس اللغات لا تقدم للتلاميذ سوى الرطانة واللكنة الأجنبية لكنها لم تمنحنا أبدا مترجما عظيما، يفهم أسرار اللغة ويسبر أغوارها ويصلنا بالإبداع الفكرى للغرب. ولقد استرحت كثيرا إلى هذا الرأى وكنت أحتاج إلى أن أشعر بأننى لست وحيدا.
ولكن تمضى الأيام لتكشف لى أن أولادى يذهبون إلى المدرسة ويعودون دون أن يتعلموا شيئا، وأن مستواهم فى اللغة العربية متواضع للغاية، رغم أنهم يدرسون كل المواد بها، وأنهم لا يفقهون شيئا فى اللغة الإنجليزية رغم أنهم يدرسونها، وبدأت أعى أن المشكلة ليست فى تعليم عربى أو تعليم إفرنجى.. المشكلة أن الدولة غير موجودة أساسا، وأن مسألة المفاضلة بين تعليم وتعليم أو بين أسلوب وأسلوب يمكن أن تنشأ فقط عندما تكون هناك دولة وهناك مسؤولون وهناك مدرس مؤهَّل لديه ما يقدمه للتلاميذ، أما عندما يكون مدرس اللغة العربية ضعيفا فى اللغة العربية فما الفائدة من الذهاب إلى المدرسة غير تنشيط الجهل والعودة به للبيت؟!
وقد حمدت الله كثيرا أن أنقذ أولادى من جنون أبيهم الحالم عندما انتقلنا للحياة فى كندا وعشنا هناك لمدة خمس سنوات كانت كفيلة بفتح صفحة جديدة ونظيفة مع الحياة ومع التعليم، فتعلموا اللغة الإنجليزية وأتقنوها، وعندما رجعنا إلى مصر ألحقتهم بالمدارس الإنجليزية التى، على الرغم من كل مساوئها المستمدة من كونها تعمل فى مصر فإنها تمنحهم شهادات يعترف بها العالم. أما مسألة الهوية والانتماء فمن الواضح أننى فكرت فيهما وفى ذهنى أساتذتى الذين علّمونى فى مدرسة غمرة الإعدادية ومدرسة الأهرام الثانوية، ولم أنتبه إلى أنهم قد رحلوا من زمان، وأن مدرسى هذه الأيام هم النسخة المدرسية من سعد الصغير وبعرور وشعبان عبد الرحيم، ولم أنتبه كذلك إلى أن النموذج الذى حلمت به يقتضى شروطا موضوعية غير جاهزة، وأننى سأكون ضحية مؤكدة فى حالة إصرارى على أن أكون أبًا محترَمًا لأبناء وطنيين فى وطن «موكوس»! وليسامحنى الدكتور حامد عمار والأستاذ فهمى هويدى وكل المفكرين الوطنيين الذين منهم تعلمت حب الوطن وتعلمت لبس الطربوش.. بعد أن تم إلغاؤه!
من كتاب «مصر ليست أمى.. دى مرات أبويا».
نقلاً عن جريدة "التحرير"