أسامة غريب
حلم الإنسان منذ الأزل هو السعادة، والسعادة فى حقيقتها ليست سوى حالة كيميائية يبلغها المخ. وقد سعى الإنسان منذ بدء الخليقة إلى الوصول لهذه الحالة الكيميائية العزيزة، وفى هذا السبيل قام بطرق كل باب واتجه لتجريب كل شىء، وكان على استعداد دائم لبذل كل غال وثمين لأجل هذه الغاية. وفى الحقيقة إن كيمياء الدماغ هى إحدى معجزات الله فى خلقه، وإنه لشىء عجيب حقا هذا الذى يحدث داخل المخ البشرى من تفاعلات تنقل الإنسان من حال إلى حال، وتعبر به من الفرح إلى الحزن ومن التوتر إلى الانبساط ومن الانزعاج إلى الاستبشار. وأعجب منه ما يحدث لدى أبسط خلل فى النسب أو اضطراب فى التفاعلات.. هنا يسقط الإنسان فريسة للاكتئاب وغيره ممن الأمراض النفسية.
جرّب الإنسان الزواج والتناسل وتكوين أسرة فزادت مخاوفه على الأبناء من الطبيعة ومن وحوش الحيوان والبشر.. ولم يحقق السعادة. جرّب الحرب والعدوان لحماية الأسرة فقتل وقُتل، وأسر وأُسر أبناؤه، وسبا نساء العدو كما تمت استباحة نسائه.. والنتيجة زيادة خسائره وتعاظم جراحه سواء عند تحقيق النصر أو عند المنى بالهزيمة، ولم يبلغ الطمأنينة المنشودة. ازدادت مطامعه بظن أن الحيازة والامتلاك قد تكفل له السعادة، فراكم الأشياء وسعى إلى الاستحواذ على ما لدى الغير، ولكن لم يزده الشره إلا تعاسة، ولم تمنحه المقتنيات سوى المزيد من الخوف الذى استدعى مزيدًا من العدوانية والغزو والحروب.. ولم تحضر السعادة.
أدرك الإنسان أن السعادة هى حالة روحية تأتى من الرضا وليست حالة مادية تجلبها الثروة والحيازة، فأقبل على الأديان يلتمس فيها الراحة والخلاص، لكن برز له الكهنة والوسطاء فأفسدوا صفاءه الروحى وقربه من تحقيق حلم السعادة، عندما تدخلوا بينه وبين ربه وأقاموا من أنفسهم جسورًا يتعين عبورها لدخول الجنة، ووضعوا للعبور رسومًا لا بد أن يدفعها المؤمن ليسمح له بالمرور، وكانت هذه الرسوم عبارة عن سُلطة حصلوا عليها وولاء انتزعوه وثروة مادية اغتصبوها. حصل الكهنة على المال والجاه وقاموا بخداع الأتباع ولم يفعلوا سوى أن أفسدوا على الناس أديانهم التى اطمأنوا إليها ومعتقداتهم التى كانت خليقة بأن تمنحهم السكينة وراحة البال، فضاعت على الناس فرصة كانت واعدة بأن يحصلوا من الأديان على السعادة وسكينة الروح.
المشكلة أن كل المحاولات التى جرت لنزع القداسة والعصمة عن الكهنة والوسطاء وإبعادهم عن التحكم فى حياة الناس إما أنها باءت بالفشل نتيجة شدة تغلغلهم فى النفوس واستعداد الأتباع للدفاع بالروح والدم عن أشد الناس إجرامًا وفجورًا وبُعدًا عن الله، وإما أنها نجحت فى تقويض ممالكهم وإعادتهم إلى ثكناتهم فقط يلوكون فيها بضاعتهم الداعية إلى الكراهية والبغضاء. وفى هذه الحالة أدى انتصار المجتمع على الكهنة والوسطاء مع النهضة العلمية إلى الإعلاء من شأن العلم مع انحسار دور الدين نفسه وتراجع أهميته فى حياة الناس.
وهكذا انقسم الناس إلى فريقين: فريق ما زال يئن ويرزح تحت وطأة الكهنة غلاظ القلوب بزيهم المميز أو قرنائهم الجدد بملابس بيير كاردان وكوكو شانيل الذين يملكون أرصدة بالملايين ويحتلون عقول الناس ووسائل تثقيفهم وإعلامهم.. وقد ضاع مع هؤلاء وانقطع كل أمل فى السعادة، وصار وجودهم محفزًا لإفراز الأدرينالين طول الوقت بعد أن كف المخ عن إفراز الإندورفينات المهدئة والمطمئنة. أما الفريق الآخر فهو الذى استأصل شأفة الكهنة وأبعد قبضتهم عن رقاب الناس فأقام دولة القانون والعلم وتوصل إلى المنجزات والمخترعات التى قللت من جهد الإنسان وأطالت وقت فراغه. وقد أدى هذا إلى رفاهية بلا حدود مع خواء روحى مخيف، ووجد الإنسان نفسه فى أزمة عميقة بعد أن عبر مراحل كثيرة فى تاريخه وخاض فى بحار من الدم حتى توصل أخيرًا إلى الحرية، ومع هذا لم يجد على شواطئها سوى العدمية والملل!
ما الحل إذن لتعديل النسب الكيميائية فى الدماغ من أجل جلب الراحة والسكينة؟ لجأ الناس سواء فى المجتمعات التى يحكمها العقل والعلم وتخلو من الرضا والسكينة، أو فى مجتمعات الكهنة والشعوذة التى حرمت الناس من الدين النقى عندما خلطته بمصالحها إلى استخدام المخدرات الطبيعية من أجل تسكين الآلام والجراح، فلما لم تعد كافية قاموا بتخليق مواد جديدة لها على المخ تأثير كبير، إذ تمنح السعادة فى غياب أسبابها! وهذا لعمرى أمر رهيب.. الحصول على السعادة من دون وجود أسبابها هو الخراب بكل معناه.. فما معنى أن يشعر الإنسان الذى رسب فى الامتحان بنفس شعور الناجح؟ وما معنى أن يشعر المكلوم فى عزيز بشعور من رُزق مولودًا؟ وما قيمة الفرح فى دنيا مفترضة لا وجود لها؟ لكن يبدو أن هذا هو كل ما بقى للإنسان الذى يريد أن يبتعد عن الانتحار هربًا من الملل أو من تحريض الكهنة المجرمين!
ولكن أليس هذا أيضًا شكلاً مفجعًا من أشكال الانتحار والقضاء على الحياة؟
نقلاً عن جريدة " التحرير "