أسامة غريب
وقفت تتلفت فى حيرة، وهى لا تدرى ماذا تفعل. كان مظهرها بالجلباب البسيط والطرحة الشعبية يشير إلى موقعها تحت بير سلم المجتمع. عندما لمحت جمعاً من الجنود، وفى أيديهم ساندويتشات الفول، التى أحضروها قبل عودتهم للمعسكر نادت عليهم: قل لى يا ابنى إنت وهو.. أريد أن أدخل لابنى حتى أطمئن عليه، وأعطيه الأكل، الذى أحضرته له. قال أحدهم: لا شأن لنا بموضوع الزيارات هذا، لكن يمكنك أن تذهبى للبوابة وتتفاهمى مع المسؤولين. قالت فى انكسار: ذهبت إليهم وطردونى بحجة أن اليوم ليس يوم زيارات مع أننى أعرف أن هناك زيارة استثنائية بمناسبة المولد النبوى. فى هذه اللحظة نهض من على القهوة القريبة رجل كان يتابع الحديث، واقترب منهم.. رجل يرتدى بدلة رخيصة مكوية بعناية، ويمسك بيده شنطة، وقال: ما الموضوع يا ست؟ أنا محامٍ، وأعرف الجميع هنا من أول مأمور السجن حتى أصغر عسكرى. نظرت إليه المرأة فى لهفة، وقالت: الله يعمر بيتك.. ولدى محبوس بالداخل، وقد أحضرت له الطعام.. قالت هذا، ثم أخرجت من السَبَت، الذى تمسكه، عمود الطعام الشعبى المصنوع من الألومنيوم، والمكون من عدة طوابق، ثم أكملت: طبخت له الأرز بالشعرية، الذى يحبه والملوخية الخضرا، وعملت له مع الملوخية دِمْعَة.. ابنى يحب الملوخية بالدمعة. نظر المحامى إلى العمود، وبدا أن لعابه بدأ يسيل فى الوقت، الذى تسمر فيه الجنود، وأنظارهم تخترق السلة. صرخ المحامى فى الجنود، وطلب منهم الانصراف، حتى يتفرغ للقضية التى سيباشرها. تفرق الجنود، وهم ينظرون نحوه فى غيظ وغضب، بينما سارعت المرأة قائلة: القضية انتهت يا أستاذ، وابنى نال ثلاث سنوات بعد أن اتهموه بتعكير السلام الاجتماعى. قال المتر: القضية الآن هى أن تدخلى لزيارة ابنك.
هل أنت جاهزة بالأتعاب؟. قالت فى فزع: أتعاب إيه؟ أنا بعت كل ما يمكن بيعه أثناء نظر القضية، وأعطيت الفلوس لجدع محامى يشبهك ويتحدث مثلك.. هل تصدق أننى شعرت بالراحة بعد صدور الحكم، لأنه أعفانى من بيع السرير والبوتاجاز.. ثم أجهشت بالبكاء، وهى تناجى ابنها: سامحنى يا ابنى.. سامحنى يا نور عينى. قال الرجل: دون فلوس لن أستطيع أن أفعل لك شيئاً.. هاتى أى حاجة. قالت فى انكسار: ليس معى سوى ثمن الميكروباص، الذى أعود به، أما صرف المعاش فلن يكون قبل أسبوع. رد فى استياء: وماذا عن الغويشة التى فى يدك؟
قالت فى أسى: قشرة وحياتك، ولا تساوى شيئاً. نظر إليها، وقال حانقاً: ولماذا لم تجلسى فى بيتك حتى صرف المعاش؟ قالت: ابنى وحشنى، عملت له لقمة وجئت لأزوره. أخذ الأفوكاتو يردد نظره بينها وبين العمود والسلة، ثم سألها فى صفاقة: وهذه السلة ماذا بها؟.. لحوم وأسماك وطيور؟ قالت: بها عيش. قال فى استنكار: عيش؟ يعنى لا يوجد معك سوى هذا العمود؟ قالت: نعم. مد يده وأمسك بالعمود، ثم فتح الطابق العلوى، وأخرج الأرز، ونزل على الطابق التالى، وأخرج الملوخية، وعرج على الأسفل، وخلط الدِمْعَة مع الملوخية، وصار يأخذ حفنة أرز فى يده، ثم يشرب ملوخية ودمعة. بعد أن أكل وشبع أخذها من يدها، ودخل بها على البوابة، وهمس لأحد الواقفين فسمحوا لها بالدخول.
فى اللحظة نفسها كانت سيارة سوداء فارهة مسدلة الستائر تعبر الفناء، وبها الهانم والدة المجرم وأخوه المجرم.. ومن الأكيد أنهم لم يأخذوا منها ملوخيتها.. ودمعتها!
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم "