أسامة غريب
عزيزتي أمل:
كل شيء بأوان.. ولهذا طوال عمري وأنا أخشى فوات الأوان.
هل تعرفي ان كل ما أردته في هذه الحياة أخذته.. لكن كان يتحقق دائماً بتوقيت جرينتش، أي بعد فوات الأوان.
الأمر يشبه حالة رجل أمضّه الجوع، وعندما ابتسمت له الحياة كانت معدته قد تهلهلت وأصبحت غير قادرة على استقبال الطعام، أو كما قال برنارد شو عن جائزة نوبل عندما أعلنوه بخبر فوزه بها.. قال: انها تشبه رجلاً ظل في البحر يصارع الغرق، وعندما ألقوا اليه طوق النجاة كان قد وصل الى الشاطئ.. لهذا لا يلزمه الطوق ولا تسعده الجائزة.
وأنا أيضاً لا أريد ان أصل الى قلبك بعد فوات الأوان وبعد ان يتجهم قلبي ويصير غير قادر على الحب مثلما قال صلاح عبد الصبور: أشق ما مر بقلبي ان الأيام الجهمة.. جعلته يا سيدتي قلباً جهما. سلبته موهبة الحب.. وأنا لا أعرف كيف أحبك وبأضلاعي هذا القلب.
كلما كتبت لك تتدافع الأفكار في رأسي وأجد ان سرعة يدي في الكتابة أبطأ من سرعة قلبي في الاملاء. لا أصدق أنني أحببتك كل هذه السنوات دون ان أظفر بك. العمر الذي قضيته في انتظارك سرق مني الفرحة وملأ روحي بالتقرحات والأوجاع. الكتابة اليك تفقدني عقلي أحياناً وفي أحيان أخرى تعيد لي بعض الاتزان. كنت أتمنى ان أكون أقل ادراكاً وأكثر بساطة. الانسان من حقه ألا يكون كبيراً طول الوقت وان يستمتع بكونه عيلاً بعض الوقت. التجارب تجعل الانسان يكبر بسرعة وينضج قبل الأوان. أنا التجارب أحرقتني، لكن ما يمنح بعض العزاء ان تجارب الحياة بقدر ما تسلب الانسان أشياء جميلة فانها تمنحه عطراً انسانياً رائقاً، وأتصور ان هذا هو ما جذبني اليك، وهو الذي جعلني أحبك وأفسح لك مكاناً لائقاً في قلبي.. لا أتحدث عن ملامحك الحلوة وانما عن موسيقاك الداخلية الهامسة المضبوطة على موجتي، عن نورك الذي نثر ضوعه وعبيره في ثنايا نفسي فعرفت الشوق على بابك.
أمل.. هل تعرفي ان لحظات الوداع حين أوصلتك الى المطار في رحلتك للدكتوراه بفرنسا كانت هي الفاصلة. ان الوداع يكثف المشاعر ويجعلها تعلو على قدرها الطبيعي كما لو كانت مضروبة في مائة، لذلك تشجعت وصارحتك. ويومها كنت طائراً من السعادة وأنا في طريقي للعودة وأخذت أوبخ نفسي: كنت تنوي ان تخبئ عنها مشاعرك؟ كنت تنوي ان تطوي جوانحك على الحب وتتركها لا تعلم.. كيف ستحبك اذاً يا حمار؟. اليوم أؤمن بأنني لم أكن حماراً الا عندما صارحتك وأخبرتك بما كنت أخفيه. يبدو ان الحب في حد ذاته هو مسألة بسيطة ومقدور عليها. المشكلة هي في البوح، ولو عادت بي الأيام مرة أخرى لما أخبرتك بشيء، لأنني كأنما قد دست على زر اطلاق صاروخ نووي أو أطلقت كمية من البخار تكفي لزحزحة الكرة الأرضية. يضحكني قولك أنك لا تحتملين كل هذا الحب، وأن فشلك في رده يجعلك تشعرين بالذنب تجاهي فتصيرين عدوانية من حيث لا تقصدين. فماذا لو علمت يا مجنونة ان ما يصلك لا يمثل سوى واحد على ألف من مقدار ما أحسه نحوك.. هل تراك تطلبين لي بوليس النجدة وقوات مكافحة الشغب؟. لقد أصبحت بسببك استجيب لدواعي الحزن أكثر من استجابتي لدواعي الفرح ولا أدري لماذا أصبحت أقف على حافة البكاء، ولهذا فقد أحضرت نظارة داكنة لأخفي عينيّ عن الناس. منذ أيام كنت أتفرج على فيلم موعد على العشاء وشاهدت سعاد حسني.. لا أدري ماذا اعتراني.. لقد وجدتني أبكي معها! فهل كنت أبكي على العمر العاصف الذي حمل لي من الغضب والجنون أكثر مما حمل من الهدوء والسعادة؟ هل كنت أبكي على الأحلام العامة التي وصل قطارها بنا الى محطة الحسرة أم أبكي.. عليك!.
أمل.. لقد كنا نغني معاً أغنية فيروز: «دايماً بالاَخر فيه اَخر.. فيه وقت فراق».
وأعتقد ان هذا هو الوقت المناسب تماماً للفراق.