أسامة غريب
ما أجمل السماح والصفح والغفران. هى أشياء من تحلى بها فقد مسه قبس من روح الله، الذى سمى نفسه العفو الكريم. السماح يجعل النفس أصفى والقلب أروق والروح أغنى، وقد قام العرب من قديم بتمجيد قيمة العفو عند المقدرة والحديث عنها باعتبارها من شيم الكرام أصحاب النفوس العالية. لا تكمن روعة السماح فقط فى أنه يعطى إنساناً الفرصة لأن يعود عن خطئه ويعمل على محوه، فيستعيد جدارته بالثقة، وإنما فى أنه يزيح عن كاهل صاحبه هماً ثقيلاً يحد من خطوه ويعوق قدرته على استعادة الإيمان بالناس. لكن مشكلة السماح أنه ليس سهلاً ويحتاج لقدر كبير من العزم والرقى النفسى.. فهو يتعارض مع رغبة بشرية طاغية ومحببة إلى نفوس البشر اسمها الانتقام. إن هناك من يقضى عمره كله سعياً وراء الثأر، وقد يخرج من داره ذات صباح ولا يعود إليها حتى ينهى المهمة ولو استغرقت سنين. يحتاج السماح إذن إلى طاقة روحية كبيرة تتغلب على لذة الانتقام.
لكن حتى إذا صفا القلب ولم تعد به رغبة فى الثأر، فإن عوائق أخرى تظل فى انتظار الراغب فى الصفح، منها نظرة الناس إليه.. فأغلبهم قد تأخذهم به الظنون إذا سامح فيعتقدون أنه ساوم على حقه أو قبض مقابل الإهانة!. وفى هذا الخصوص يمكن القول، إن المجتمعات التى تغلب عليها الروح القبلية يكون السماح فيها أكثر صعوبة، حيث يأخذ التفاخر أحياناً صوراً متطرفة، قد تضع المتسامح فى خندق الجبناء، وإن من أفضال الدولة الحديثة التى يعلو فيها القانون، أنها تجنب المواطن أن يأخذ ثأره بيده، فتجعل الشعور بالظلم أخف والقدرة على التسامح أكبر.
لكن فى كل الأحوال تظل هناك دائماً عوائق نفسية ومجتمعية تحول بيننا وبين السماح، فهناك الخوف من أنّ الطرف الآخر قد لا يفهم حقيقة موقفنا ويظن وراءه ضعفاً، فكيف لنا أن نضمن أن الأخ الذى نسامحه ونفتح معه صفحة جديدة سيتحلى بالفهم والتمييز وسيقابل موقفنا الجميل بالشكر والامتنان؟ من يدرى فربما صورت له نفسه أننا نقوم بمناورة أو نسعى للاقتراب، حتى يسهل علينا الانتقام وتسديد الضربة الموجعة. من معوقات القدرة على التسامح أيضاً بعض الأمثال الشعبية التى يعتنقها الناس ويظنونها دستوراً أبدياً يحكم حياتهم مثل مقولة، إن ما ينكسر لا يمكن إصلاحه، أو أن ذيل الكلب لا يمكن عدله.
تعمل هذه الأمثال فى الحقيقة على إغلاق نوافذ الرحمة فى القلوب وتدفع الناس إلى نبذ السماح خشية ألا يكون مجدياً، ومخافة أن تكون تضحيتهم ستذهب إلى من لا يستحقها. وقد يخشون أيضاً من أن شبح الماضى سيطاردهم ويفسد عليهم الحياة بصحبة من سامحوه، ولهذا قد يظلمونه بينما يكون قد تاب حقاً وندم على خطئه وعزم على التعويض عنه.
جميلٌ السماح حقاً.. لكنه ليس سهلاً بالمرة.
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم "