مصر اليوم
ألم يحدث ان كنتَ بصحبة أحد الأصدقاء عندما شاهدتما موقفاً أو وقع أمام أعينكما حادث أو تعرضتما لمحاولة نصب أو رأيتما أي شيء مما يستحق ان يروى أمام أصدقاء آخرين؟.حاول ان تتذكر من فضلك.. عندما شرع صديقك في اليوم التالي وبمنتهى الحماس في رواية ما حدث أمام الشلة، هل تذكر الدهشة التي ارتسمت على وجهك والذهول الذي اعتراك وأنت تستمع الى صديقك يروي أحداثاً لم تحدث ويضيف مواقف جديدة من نسج خياله وينسب لنفسه أقوالاً وأفعالاً لم يقلها ولم يفعلها؟.
كلنا مررنا بهذا، وأنا شخصياً كان لي صديق كلما خرجت معه عاد الى الشلة بقصص وأساطير نابعة من خروجنا معاً ومبنية على ما صادفناه فيها، ولا أنكر أنني كنت أشعر بالاضطراب وأنا أستمع الى أكاذيب تروى وقصص تُخترع، وفي الوقت نفسه لا أرغب في احراج صديقي الذي دخلت القصة الى رأسه من جهة ثم خرجت من الناحية الأخرى حدوتة جديدة تماماً ومغايرة للحقيقة!.
في البداية كنت أظنه فشاراً من كبار الفشارين، ثم تبينت بعد ذلك أنه لا يكذب، هو يروي الحكاية كما يراها، ولو أراد ان يكذب ما حكى حواديته أمامي.. كان على الأقل سينتظر حتى أرحل ثم يأخذ راحته في الكلام لئلا يتعرض للحرج اذا ما كذّبته وحكيت للآخرين حقيقة ما حدث.
في ظني ان بعض الناس.. لا.. الكثير من الناس تتصارع الأخيلة والتوهمات داخلهم طول الوقت وتتطاحن مع الوقائع والحقائق، ثم يستخلصون منها نتائج ترضيهم نفسياً وتشعرهم بالاشباع، فبعضهم على سبيل المثال يروي الموقف كما هو بالضبط مع تعديل بسيط هو ان ينحي البطل جانباً أو يعطيه كتفاً صغيراً ثم يقف مكانه ويحل محله ويصنع من نفسه الشخصية الرئيسية في الموقف، وبعضهم لا يسلب البطل حقه ولكن يقوم بتعديل في السيناريو فيدخل عليه بعض المحسنات والتوابل ويضيف له بعض الافيهات الكوميدية حتى يحدث التأثير المطلوب في السامعين، وفي كل الأحوال تكون الحقيقة هي الضحية.وعلى هذا فمن الممكن ان يشاهد عشرة أشخاص نفس الحدث ويرويه كل منهم على هواه فلا يعرف المستمع حقيقة ما حدث أبداً.
ادراكي لهذه الأشياء جعلني أنظر للتاريخ وكُتبه ورواة أحداثه نظرة ملؤها الشك والريبة، فاذا كانت الأحداث التي وقعت أمام أعيننا بالأمس تأخذ بعد مضي 24 ساعة في مخيلة شهودها أشكالاً وألواناً جديدة، فما بالك بالحكايات المتواترة والمروية منذ مئات السنين، أيّ الأشكال يا ترى أخذت وأي المحسنات أدخلت عليها وأي الأشخاص عبث بها فلوّنها وشخبط عليها ومحا منها وأضاف اليها حتى وصلت الينا في صورتها الراهنة.. وعليها بنينا أهراماً في الخيال لأبطال قد لا يكونون أبطالاً، كما بنينا صوراً فظيعة لأنذال قد لا يكونون في حقيقتهم بكل هذه البشاعة!.
الخلاصة.. التاريخ الذي نقرأه يصلح للاسترشاد فقط وتكوين فكرة عما حدث، أما حقيقة ما حدث فلا يعلمها الا الله وحده.
وبالنسبة لكتب التاريخ المدرسي وخاصة التاريخ الحديث والمعاصر، فأستطيع ان أؤكد أنها كتب كاذبة بنسبة %99، وهي للغرابة نفس النسبة التي اخترعها الطغاة العابثون بالتاريخ في استطلاعاتهم واستفتاءاتهم وانتخاباتهم!.