كنت زمان أتصور أن الإنسان لكى يُثقِّف نفسه عليه أن يقرأ كثيرًا وفى كل الفروع. وكنت أظن أنه كلما كانت القراءة عسيرة وتحتاج إلى بذل جهد كبير للفهم والاستيعاب كان المردود كبيرًا، وكنت أرى أن الذى يصنع منك مثقفا هو قدرتك على احتمال كتابات ليست ممتعة ولا مسلية ولا مبهجة.
من أجل هذا عانيت طويلاً مع كتب تحمل قدرًا كبيرًا من الملل والكآبة والإبهام، معتقدًا أن العيب لا شك فىّ أنا، وأن جهاز استقبال الثقافة الرفيعة عندى يحتاج إلى تسليك، وأن هذا التسليك لا يتم إلا بقسر نفسى وإرغامها على احتمال ما تكره، فى انتظار اليوم الذى أقرأ فيه روايات مملة، فلا أشعر بالملل ومقالات غير مفهومة، فلا أشعر بالضيق، وقصائد لا تُمتع حتى صاحبها فلا ألعن صاحبها.. هنا يمكننى أن أعلن لنفسى أننى اليوم قد أصبحت مثقفًا!
ولو عادت بى الأيام إلى الوراء لوفرت آلاف الساعات التى قضيتها بصحبة أشياء لا أحبها، ظنًا منى أنها جيدة، وأننى قاصر عن بلوغ المتعة فيها بسبب جهلى.
طبعًا لا يتناقض ما أقوله مع إيمانى بأن الثقافة الرفيعة تحتاج إلى الدأب للارتقاء إلى مستواها والاستمتاع بها، وأن الكتابات الجادة والموسيقى الرفيعة لن تحمل المتعة إلا لإنسان يستحقها، لكن مقصودى هو أن الكتابة والموسيقى والفيلم لن تكون جيدة وهى تحمل مضمونًا ينهك النفس ويجهدها فلا تقوى على استقبال المغزى من فرط التعب! لقد أصبحت أؤمن أن الكتابة الجيدة هى الكتابة الممتعة التى تسلى وتنعش النفس وتبهج الروح، أيًّا كان الفرع الذى تنتمى إليه.. قصة، رواية، مقالا، قصيدة، موضوعًا فلسفيًّا، اقتصاديًّا، اجتماعيًّا، سياسيًّا. ولهذا أصبحت أستمتع بالقراءة أكثر بكثير من ذى قبل، لأن الانتقاء والانتخاب صار هو القاعدة، ولم تعد تؤثر بى حملات الدعاية والعلاقات العامة التى يقوم بها البعض على صفحات الجرائد والمجلات لكُتّاب بأعينهم وشعراء بأعينهم ليسوا أفضل الموجودين، لكنهم الندماء فى جلسات الشراب والأنس والنميمة، والشركاء فى البزنس!. لكنى مع قدرتى اليوم على الفرز والاختيار أصبحت فى مأزق.. بإمكانى طبعًا أن أختار من الكتب ما أحب وأهوى، لكن المشكلة الحقيقية هى فى الصحف، إذ إن ٩٠ بالمئة مما أراه منشورًا اليوم لا يستحق سوى صفيحة الزبالة، وتأثيره على القارئ سيئ بكل تأكيد. والمرء يحتار عندما ينظر إلى أسماء من يكتبون.. تسألهم مَن هذا؟ يقولون لك: هذا صديق لرئيس التحرير من أيام الحارة ويكتب من باب الوفاء! ومَن هذا؟ يقولون: هذا الرجل يقوم بعمل طواجن لحمة بالفرن لا مثيل لها وفى الوقت نفسه يهوى الكتابة. ومَن هذه؟ يقولون: هذه أرملة تشعر بالوحدة وتجد السلوى فى كتابة المقالات فلا بأس أن ننشر لها! ومَن هذا؟ هذا من ضمن الخمسة بالمئة معوقين، الذين يفرض القانون تعيينهم! ومَن هذا؟ هذا من أبناء الشهداء، وقد كان والده من أبطال حرب البسوس. ومَن هذه؟ هذه مطلقة تعول طفلين ويجب مساندتها. ومَن هذا؟ هذا أحسن واحد يرقص بلدى فى حفلات الكبار ويطلبونه بالاسم فى مارينا.
ومَن هذا؟ هذا هو المعبّر عن فكر صاحب الجريدة والمترجم الأمين لرؤاه وافتكاساته. ومَن هذا؟ هذا شرطى مفصول لسوء سلوكه.. آويناه وعلمناه صنعة بدلاً من أن يتحول إلى قاتل مأجور! ومَن هذه؟ هذه الحسناء يسعى الرجال فى أثرها، ونحن نحصّنها بالكتابة حتى نبعدها عن سكة الغواية! ومَن هذا؟ هذا مندوب القلم المخصوص فى الجريدة، يعمل بالمباحث لكنه صاحب فكر! ومَن هذا؟ هذا مذيع بالتليفزيون.. هو ثقيل الدم حقًا، لكنه يستضيفنا فى برنامجه من وقت لآخر. ومَن هذه؟ هذه أيضا مذيعة، لكنها واصلة.. نحن نعلم حجم سخافتها لكننا باستكتابها نتقى شرها. ومَن هذا؟ هذا ابن عم مدير التحرير.. عنده مطعم فول وطعمية، لكنه يحب أن يرى اسمه مطبوعًا فى جريدة. ومَن هذا؟ هذا رجل أعمال يضع حرف دال قبل اسمه.. نحن نعلم أنه ساقط إعدادية، لكنه يكتب بفلوسه! فإذا كان هذا هو الحال فى الصحف الخاصة، وبعضها أحبه وأحرص على قراءته كل يوم، فكيف الحال بصحف الحكومة؟
نقلاً عن جريدة "التحرير"