أسامة غريب
فى السنوات التى قضيتها فى كندا كان ينتابنى إحساس غريب لم أشعر به من قبل.. كنت أشعر بأننى غنى من الناحية المادية مقارنة بغالبية أهل البلد، وكان هذا الشعور يدهشنى إذ إننى كنت مجرد موظف، ولم أكن مستثمراً أو رجل أعمال. لقد تصورت أن يكون هذا الشعور طبيعياً لو أننى كنت أعيش فى أحد بلاد أفريقيا البائسة أو بلاد آسيا التعيسة، أما فى كندا الغنية العفية التى تمنح القروض والمعونات للدول الفقيرة فإن دهشتى كانت طبيعية. بمرور الوقت زالت الدهشة بعد أن لمست أن الناس هناك يشكلون طبقة وسطى عريضة من محدودى الدخل، الذين يجدون ما يكفيهم، لكن دون فوائض، وعرفت أيضاً أن الحاجة ليست ماسة فى هذا النوع من المجتمعات العادلة إلى الدخول فى مطحنة الحياة من أجل المال، ذلك أن الدولة تقدم الخدمات، وتوفر الاحتياجات الأساسية بالمجان، فالتعليم مجانى وكذلك العلاج، وأسعار مستلزمات الحياة كالمأكل والملبس والمواصلات رخيصة وفى قدرة الجميع، وهناك يستطيع أى مواطن أن يمتلك منزلاً، ثم يسدد ثمنه على أقساط مريحة تبعاً لدخله، ولو مات أحد المقترضين قبل السداد يسقط الدين فوراً عن الورثة.
لم يكونوا دولة اشتراكية من تلك التى توزع الفقر على الجميع بالتساوى، وإنما تركوا الحافز الفردى قائماً، وسبل المنافسة مفتوحة لمن يرغب فى حياة بها ترف زائد، وسلع استهلاكية أكثر!.. هكذا كان الناس يعيشون فى طمأنينة لا تجعلهم يحملون همّ تزويج البنت وتجهيزها، أو شراء شقة تمليك للولد أو ادخار قرشين للعلاج، أو لمفاجآت الحياة غير المتوقعة، ولعل هذا ما جعلنى أكتشف سذاجتى عندما تصورت نفسى أغنى منهم لمجرد أن راتبى أعلى من غالبيتهم، ونسيت انتمائى لوطن يُذل فيه الإنسان، وتُدهس كرامته لمجرد أن دخله محدود.. وطن يعج باللصوص من أصحاب الملايين، الذين يمتلكون كل شىء، بينما أى موظف شريف - مهما علا- لا يساوى بصلة، وحيث لا يملك الفقير ترف أن يمرض!
ومن المحزن أن الظلم الاجتماعى يجعل الناس فى حالة هوس خشية السقوط فى بئر الفقر، والغوص فى ظلماتها، وينطبق هذا على الطبقة الوسطى أكثر من انطباقه على الطبقات الدنيا، فهؤلاء لا يخشون على أنفسهم فقط، لكن خشيتهم على أبنائهم أكبر، ولعلهم بوعى أو دون وعى يتمثلون أحداث قصة «شىء فى صدرى» للكاتب المرحوم إحسان عبد القدوس، وهى نموذج كلاسيكى يوضح أن كل ما يبنيه المرء فى حياته واستثماره فى أولاده من خلال تعليمهم وتربيتهم.. كل هذا يمكن أن يضيع إذا مات الإنسان فجأة دون أن يترك لأبنائه مالاً. فى كندا لا تحتاج أن تترك للأبناء مالاً، لكن فى مصر يمكن أن تحدث لهم كوارث إذا لم تفعل.. أبسطها أن يتمكن أعداؤك من الاستيلاء على زوجتك، والعبث بها نكاية فيك، ثم الحصول على ابنتك وافتراسها تعويضاً عن كل مباريات الشرف، التى فزت فيها عليهم أثناء حياتك.. فياخفى الألطاف نجنا مما نخاف!
نقلاً عن "المصري اليوم"