أسامة غريب
كان لى صديق من العلماء الأفذاذ، وقد حدث أن أطلعنى ذات يوم على بعض اختراعاته، فأذهلنى برؤيته غير المسبوقة وقدرته على ابتكار تكنولوجيا منخفضة التكاليف فى مجال توليد الطاقة من الرياح ومن الشمس. أصيب هذا الصديق بمرض السرطان ورحل عن دنيانا، يوم قمنا بتشييعه إلى مثواه الأخير وجدتنى لا أستطيع دفعاً للأسئلة التى تصارعت فى عقلى عن الأفكار التى طوى عليها مخه ولم ينفذها.. ما مصيرها وأين ذهبت؟ هل رافقته إلى القبر أم انتقلت بالموت إلى جمجمة أخرى تستطيع حملها والتعامل معها؟ وإذا كانت قد انتقلت فكيف حدث ذلك؟ وهل تعرّض بعضها للتلف أثناء النقل؟ وصاحِب الجمجمة الجديدة من يكون، وهل هو هنا أم فى بلد آخر؟.. كل هذه الأسئلة غير المعقولة دارت فى رأسى وأنا أشيع صديقى إلى قبره، وشعرت حينئذ بالحسرة بعد أن رجّحت أن الأفكار التى يحتويها الدماغ تموت بموت صاحبه، ولا يمكن الحصول عليها بعد وفاته.. وربما لهذا السبب تحرص الدول المتعادية على اغتيال العلماء فى صفوف بعضها البعض لتقطع خيط الأفكار وتقف به عند مراحل يمكن التعامل معها قبل أن يستفحل الخطر. لكنى مع ذلك تمنيت لو أن الإبداع الذى يمتلئ به رأس العالم أو الأديب يكون مما يمكن استخلاصه بطريقة ما بعد الوفاة، ذلك أن تفكيرى القاصر صعب عليه استيعاب مسألة ضياع الأفكار التى توصل إليها أحد العقول لمجرد أن صاحب العقل قد صدمته سيارة طائشة مثلاً!
وكثيراً ما أسرح فى مغزى حياة عبقرى الموسيقى سيد درويش الذى عاش 31 سنة فقط، وأفكر فيما كان يمكن لموسيقانا العربية أن تصير لو أنه عاش ثلاثين عاماً أُخَر؟ أو لعل المشيئة الإلهية تكون قد قضت بأن يلتقط أحد آخر ما تبخر من دماغه بعد الموت، وأكمل المسيرة الفنية بعده.. من يدرى؟.. ومثله أبوالقاسم الشابى، الشاعر الفذ الذى مات فى سن الخامسة والعشرين دون أن ينجز مشروعه الشعرى.. أين ذهب الإبداع الذى كان يملأ تجاويف مخه؟ هل أكمله شاعر آخر أم أن كل إنسان هو تجربة فريدة فى ذاته، ولا يمكن أن تطابق بصمته الإبداعية بصمة أخرى؟
وتحضرنى هنا نماذج سلوكية سعى أصحابها للاستفادة من قدرات المخلوقات بعد مماتها على نحو عجيب، فهناك من يُقبل على التهام «طاجن مخاصى»، وهو يظن أنه سيحوذ قوة جنسية خارقة بعد أن يأكل أعضاء الثور التناسلية!.. وهناك كذلك من يأكل أمخاخ الحيوانات باستمتاع كما لو أنها ستمنحه قدرات ذهنية لم تحصّلها هى ذاتها عندما كانت على قيد الحياة!
وهناك النظرية العلمية الشائعة عن وزن الروح التى تقول إن الإنسان يفقد من وزنه 21 جراماً بمجرد الموت وصعود الروح إلى بارئها، وهذا الموضوع تناول رمزيته المخرج «أليخاندرو جونزاليس» فى الفيلم الأمريكى «21 جرام».. وقد قدّر البعض أن هذه الجرامات الواحده والعشرين هى وزن الروح.. فهل يمكن القول إن الإبداع لصيق بالروح، يعيش فى كنفها، ويصعد معها عند الموت إلى السماء؟
ما يحزننى هو أننى لن أعرف إجابة هذه التساؤلات لا الآن ولا بعد الموت على الأغلب!
نقلاً عن جريدة " المصري اليوم "