أسامة غريب
المبدع الحقيقى لابد أن يتحلى بالجرأة، وهذه الجرأة هى التى تجعله لا يخشى ارتياد عوالم جديدة، والانطلاق فى فضاءات رحبة، والتحليق فى الخيال حتى ملامسة عنان السماء.
لكن هذه الجرأة لا تتأتى إلا من خلال الثقة بالمتلقى، والتأكد من أن الصلة التى تربط بينه وبين المبدع هى صلة قوية تسمح له بتقديم كل جديد وغريب دون أن يخشى أن ينصرف عنه المتلقى أو يتهمه بالجنون.
وكثير من المبدعين لم يستطع فى أعماله الأولى أن يسفر عن جنونه الحقيقى، فكتم حقيقته عن الجمهور خشية أن يكون عمله الأول هو عمله - الأخير. وحتى مخرج متمرد مثل يوسف شاهين عندما أقدم على تجربة جديدة فى أول أعماله، اتفقنا مع ما قدمه أو اختلفنا، أحببنا أفلامه أو سخطنا عليها، فلا شك أنه كان مبدعاً من طراز خاص، وأن إبداعه لم يظهر بالشكل الذى يريده إلا بعد أن اكتسب الثقة بالنفس، وعرف أن له جمهورا يمكن أن يتفاعل جدلياً مع ما يقدم، وساعده على هذا وجود جهات إنتاجية دعمته دون أن تنتظر ربحاً!
كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن الجنون فى الفن دون أن نعرج على فنان عربى جميل هو زياد رحبانى الذى لا يزال يفاجئنا مع كل عمل بنغمات جديدة وأشكال موسيقية غير مألوفة، فضلاً عن كلمات لا يجرؤ سواه على تقديمها ولا تخطر بالأصل على مخيلة فنان عادى ممن يكتبون أغانى تقليدية عن الحب والهجر والوصال. ولا أعتقد أن زياد رحبانى كان يستطيع أن يخرج على الناس بكلماته ونغماته إلا بعد أن اكتسب الثقة وعرف أن له رصيداً لدى الجمهور يسمح بالتفنن والتحليق.
ومن تجربتى الشخصية أقول إننى كتبت ذات يوم نصاً أجّلت نشره طويلاً، إذ لم أثق بأن يلقى القبول، ولكن بعد أن قطعت شوطاً قدمت فيه للقراء أشياء مألوفة سمحتُ لنفسى بأن أنشره تحت عنوان: «قالت لى السمراء: اسقينى مانجة» وفيه سردت حدوتة غير تقليدية عن تجربة حقيقية حدثت لى، وقد قمت باستعارة جملة قالت لى السمراء من اسم أول دواوين الشاعر نزار قبانى. وعندما أتى رد الفعل إيجابياً ومشجعاً سمحت لنفسى بعد ذلك بمزيد من التهور!. صحيح أن الأحمق يتحلى بالجرأة أكثر من غيره ويمكنه أن يتقدم بكلامه الفارغ بكل فخر، لكن التهيب الزائد أيضاً له مضار، وقد يمنع صاحبه من إخراج أجمل ما لديه خشية الإخفاق. الجرأة مطلوبة لتقديم الجديد والغريب والمفاجئ، وبدونها سنظل ندور حول أنفسنا ونحكى ذات القصص ونضحك على نفس النكت ونموت من السأم والملل.