أسامة غريب
تعايش الناس مع برنامج تليفزيونى تقوم فكرته بالأساس على ارتكاب جريمة.. وهذه الجريمة هى إذاعة محادثات خاصة تم التنصت عليها وتسجيلها لبعض السياسيين والشخصيات العامة بحسبانها مادة إعلامية حصل عليها مقدم البرنامج منفرداً فى سبق إعلامى خطير!. بعد وقف البرنامج ظننا أن العقل قد عاد والرشد حل محل النزق، غير أن الأنباء تواترت عن النية فى إنشاء قناة جديدة تقوم بالدور نفسه!
المشكلة أن تكرار الخروج على القانون وانتهاك خصوصية الناس بهذا الشكل، مع عدم الخوف من العقاب، بل والزهو بالجريمة، قد يترتب عليه أن يهجر الناس القانون ويتعايشوا مع مدونة سلوك واقعية تقوم على أن ارتكاب الجرائم حق مكتسب للمسنودين الذين يمكنهم الإفلات من العقاب. وفى الحقيقة أن انتشار هذه الأخبار خارج البلاد قد يشجع الجانحين والخارجين على القانون من كل بلاد العالم على القدوم إلى مصر والاستقرار بها باعتبارها وطناً آمناً لمرتكبى الجنايات بل باعتبارها جنة المجرمين التى لا تعاقب على جرائم يشدد العقوبة عليها العالم كله!.
الخبر السعيد أن هذا قد يأتى ببعض الاستثمارات من جانب أصحاب الثروات الحرام الذين يعجزون عن العمل وفق القوانين السارية فى بلاد العالم الطبيعية، ومع ذلك فهناك مشكلة فى هذا الخصوص لا يمكن إهمالها، وهى أن الدول ذات الطبيعة الرخوة كما كتب عنها أساتذة فضلاء ليست هى التى تتغاضى دائماً عن تطبيق القانون، ويفلت مرتكبو الجرائم بها من العقاب، لكنها التى تسمح بانتهاك القانون حيناً ثم تلتزم بتطبيق نفس القانون حيناً آخر، وهى التى تترك مرتكباً للجرم يفلت بفعلته بينما تعاقب على نفس الجرم شخصاً آخر، وذلك بدون أسباب واضحة..
بمعنى أن المجرمين لا يستطيعون فى الدولة الرخوة أن يطمئنوا تماماً ويستسلموا للدعة والراحة، فهناك من يمسك بمقبض الحنفية يفتحها حيناً ويغلقها حيناً آخر، وهناك اعتبارات تتعلق بالمنافسة قد تبطش ببعض المجرمين على حين غفلة وتترك البعض الآخر، وهناك مسألة إرضاء الرأى العام ومحاولة الظهور بمظهر محترم أمام العالم من خلال تقديم كبش فداء من وقت لآخر، وهذا التذبذب قد يطيح بمن كنا نظنهم من المحصّنين، كذلك قد يحدث تغير فى الآليات المطبقة لأسباب تتعلق بالمزاج والكيف دون أن يكون لذلك علاقة بأى محددات منطقية..
لذا فإن الدولة الفاسدة المستقرة أفضل كثيراً من الدولة الطرية أو الفاشلة بالنسبة لأصحاب النشاط الإجرامى جنائياً كان أو اقتصادياً. وعلى هذا فإننا نناشد السلطة أن تتخلص من رخاوتها التى تحير المواطنين والمستثمرين الأجانب على السواء، وأن تستقر على حال نستطيع أن نقيس عليه.. فإما أن تكون دولة قانون واستقامة لا يذاع بها برامج تضم تلصصاً على الناس أو أن تكون دولة جنوح وجريمة خالصة.. نطلب ذلك رفقاً بالعقول.. ليس أكثر!